الشعوب العربية في فرح وأمل، والتونسي في اعتزاز وترقب. العرب يفرحون؛ لأن بعضهم كسر حاجز الوهم، وفكَّ القيد الطاغي؛ فاستجاب له القدر، حتى غدا طاغيتُه ممجوجا من الأقربين والأبعدين، وكأنَّ تواطأ غير معلن انعقد بين كل أولئك المتناقضين، فرنسا وأمريكا، والعرب، شعوبا، وهيئات، وأحزابا، ثم دولا. ولا عجب؛ فقد استجاب القدر، وهذه تجلياته. والتونسيون يشعرون بالاعتزاز، وحُقَّ لهم ذلك؛ لأنهم كانوا الرواد، وقد فتحوا الباب على الأمل، وانبثقوا دفعةً واحدة؛ فلم يعودوا يطيقون وصمة الطاغية؛ فكانوا السابقة للشعوب العربية المتقاطعة معهم، بشكل، أو بآخر.
هذا الإنجاز لا يجوز التقليل منه، أبدا، ولكنه يبقى في نطاقه: شعبٌ بقواه الحقيقة، يتمكن من خلع طاغيته، واستعادة الحياة، ولو مؤقتا؛ ليتنفس هواء الحرية، ولو مازجها الترقب، من الالتفاف، أو التضليل، أو الاجتزاء في منح بعض (الإصلاحات التلفيقية) والتغيير في الوجوه، دون أن يطال القاعدة الصلبة التي تؤسس لحياة مدنية كريمة، وشاملة وشفافة.
لم يثر الشعب التونسي على زين العابدين؛ لأنه زين العابدين، ولكنه ضحى، واستطاب الموت؛ ليحيا، وليغير. وتونس الآن تتعرض لولادة عسيرة ، في طريقها محاولاتُ الاستثمار من أحزاب وقوى سياسية متطفلة، والتحدي هو أن يفرز الشعب الذي ثار، والفئات التي فاض بها كيل الظلم والكبت نخبةً حاكمة تمثلها، وتنصفها، وإلا فإن ما أُنجز - على فرادته ورفعته- يبقى بلا الثمرة المرجوة!
ثمة ملحوظة تتعلق بالأسباب التي أفضت بهذه الهبة الشعبية العنيدة، لعلها تتلخص في تطرف الرئيس المخلوع قي الدكتاتورية، وتماديه في الاستخفاف بالشعب التونسي، بكل معاني وجوده وتحقُّقه: المعيشي والحقوقي، والقيمي، وهذا ما لا نجده، ربما بنفس المقدار والنطاق، في سائر الدول العربية. وهذا يعني أن الحاكم الفارَّ من شعبه لم يترك للشعب التونسي مخرجا، أو متنفسا؛ فما زاد عن حده قد انقلب إلى ضده, و(كثرةُ الشدِّ تُرخي)، ولذلك لا نجد بقية الشعوب العربية، وإن أبدت تضامنا، وابتهاجا مع ثورة التوانسة، لا نجدهم يتوفرون على هذه القوة في الاحتجاج؛ فما دامت الحياة (ممكنة) فإنهم يُؤْثرون السلامة، ويتكيفون مع الواقع، ولو كان مؤلما.
ليست المشكلة في الطاغية الفرد:
الدكتاتورية من أسوأ معضلات الحكم، ومعطلات فاعلية الدولة، يخنزل الحاكمُ البلادَ والشعب في ذاته، ويصبح القيِّم الأوحد، عليهما. المساسُ به، يعني بالضرورة استهداف الشعب ومنجزاته! والتآمر على البلاد وتاريخها! ولكن معضلات بلادنا لا تقف عند هذه الظاهرة؛ فحين رحل صدام، وأطيح بنظامه انفتح على الشعب العراقي بابٌ من الأعمال التخريبية، والانتهاك الدولي والإقليمي، والتناقض العرقي، والطائفي المقيت. وحين رحل جعفر النميري عن السودان، بعد الانتفاضة الشعبية ضده، لم يستعد الشعب السوداني حقوقه، ولا استطاع الاحتفاظ بوحدة بلاده.
الحاكم الصنم، والحاكم المستخدَم للشعب:
في الدول الحقيقية يكون الحاكم موظفا عند الشعب، وفردا في مؤسسة الدولة المستندة إلى الشعب، وقواه الذاتية الحقيقية, هو الذي ينتخبه، وهو الذي- إن أراد، أو أخل بالعقد بينهما- يعزله، أو يحاكمه.
هذا المستوى من العلاقة بين الحاكم والمحكوم لم يُنجز في يوم وليلة، ولكنه حصيلة حالة من الوعي بالحقوق، ومن البناء الفكري والأخلاقي الذي يعيد للإنسان العاقل المكانة الكريمة التي يستحق، وينظم السلطات، ويرسخ تلك المفاهيم التي بُنيت عليها الجماعة؛ لتكتسب سلطانا أدبيا فاعلا، ولتفرز آليات تعمل على تنفيذها، وصيانتها.
فإذا مال الحاكم، أو انحرف، بل إنه إذا مس رمزية الموقع الذي يشغله؛ فإن المؤسسات القضائية لا توفره، ولا تحابيه. وأحدث مثال على ذلك رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني الذي يخضع للتحقيق في قضية دعارة على خلفية ممارسة الجنس مع فتاة قاصر مغربية، ويوجه إليه تهمة سوء استخدام السلطة. ومن قبله رئيس الدولة السابق في إسرائيل موشيه كاتساف الذي أدين بالاغتصاب، والتحرش بموظفات سابقات عملن معه؛ ما يعرضه للسجن سنوات طويلة.
فما قيمة الثورة التونسية؟
إنها تعيد للشعوب العربية ثقةً مستلبة، وتخرجها من حالة إحباط خانقة، وتدق للنخب الحاكمة ناقوس الخطر؛ فحركة الشعوب يصعب التنبؤ بها، وثوراتها يصعب؛ إذا انطلقت، إخمادُها. وهذه النقلة الشعورية في الحالة الشعبية، وفي النخب المثقفة، والقوى الحية في المجتمع جديرة بالخروج من حالة السبات، والكسل الذهني والجبن الذي كان يخيم على المنطقة العربية. وهما، أي الكسل الذهني، والجبن يعدان السبب الأكبر, فيما سماه الفيلسوف الشهير عمانوئيل كانط القصور العقلي، يقول:laquo; أعْمِلوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فلا تتواكلوا بعد اليوم، ولا تستسلموا للكسل، والمقدور والمكتوب. تحركوا وانشطوا وانخرطوا في الحياة بشكل إيجابي متبصر. فالله زودكم بعقول وينبغي أن تستخدموهاraquo;
فالجرأة والتفكير الفردي يسهمان في وصول الإنسان إلى سن الرشد، والنضج، و بهما يخرج المرء من التبعية للآخرين، إلى التفكير الفردي، دون وصاية؛ فكثيرا ما يؤتي التفكير الفردي نتائج أدق، وأصوب من (التفكير الجماعي) هذا إذا صح أن يطلق عليه صفة التفكير، فيما هو أقرب إلى التواطؤ, والاستنامة إلى أوضاع مألوفة وموروثة.
لكن هذه الحالة الإيجابية لا تعدو كونها الشرارة التي تقدح زناد الفكر والعمل، وبعد ذلك طريق طويل من البحث في القواسم المشتركة، والرقي بآليات فض الخلافات، وتنمية آليات المحاسبة والمساءلة، واستعادة الناس لثقتها بذاتها، وأنها هي التي تقرر من يحكمها، لا أن الحاكم المستبد قدر لا يُرد.
[email protected].
التعليقات