مصر الأجدر بقيادة العالم العربي، وهي بذلك جديرة بلعب دور إقليمي أكبر، حكمٌ غير مفاجىء، لكن الأوضاع الداخلية المترديَّة التي عاشتها مصر في العقود القليلة الأخيرة هي التي أعاقت هذا الدور. ولا حاجة للإفاضة في العوامل التي تجعلها في هذه المنزلة القيادية، من الموقع الجغرافي، المتوسط، والموضع المرموق الذي تشغله في عيون العرب، ثقافيا، وتاريخيا، وإشعاعا عاما.

وبعد أن سقط نظام البعث في العراق حاولت إيران أن تملأ الفراغ في الإقليم، لكن نجاحاتها ظلت محدودة، وغير مشجعة؛ فلم يكن من السهل الانقياد العربي السني لدولة إيران التي لا تخفي بعدها الفارسي، ولا تتعالى على الخطاب الديني المذهبي. كما لم تنجح تركيا بملء الفراغ، ولو أن محاولاتها لتوسيع نفوذها في المنطقة العربية لم تُواجه بذات الانفعال، وذات التوجس الذي قُوبلت به إيران.

ما العوائق التي حالت دون دورٍ مصريٍّ لائق؟
كان في الحقيقة ثمة سبب آخر يعيق مصر عن لعب دور أكثر تأثيرا في العالم العربي، غير التأزم والانسداد الداخلي، ذلك هو العلاقة الخاصة التي كانت تربطها بإسرائيل، والولايات المتحدة. صحيح أن السلام مع الأولى كان يوصف في كثير من مراحله بالبرود، أو الفتور، لكن العلاقة كانت أعمق من أن تتأثر بتلك السمة السطحية.

وحتى في أشد اللحظات حرجا وحساسية لم تملك القاهرة إلا أن تغض الطرف, أو تتعاون مع قرارات إسرائيل التي لم تكن تبالي بأمر قَدْرَ مبالاتها باعتباراتها الأمنية، وكان إعلان الحرب من القاهرة بلسان وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيفي ليفني، على غزة، والحصار المشدد الذي فرضته حكومتها على القطاع, ومنع تعميره بعد الحرب تلقي بمشاهدها، وتداعياتها على مكانة مصر، وتقضم من هيبتها الخافتة أصلا.

وظل النظام المصري، ولا سيما أيام مبارك، يدفع بفواتير عالية ثمن التصور العربي عن مصر أنها الأخت الكبرى، وثمن المقارنة بالنمط الناصري في القيادة, والشعارات. ولما لم يحقق نظامه نجاحات داخلية، وحجَّم نفسه بهامش ضيق من العلاقة مع إسرائيل، ثم أمريكا، جفَّ ماء وجهه، ولم يعد ينطوي على الكثير من أسباب البقاء.
ما الذي يرشحها لدور أكبر اليوم؟
واليوم, وبعد هذا الزلزال السياسي الكبير الذي غيَّر وجه مصر, والمنطقة, لا بد أن يعقبه تغيير داخلي، وخارجي. صحيح أن المطالب التي تمحور عليها المحتجون كانت داخلية, في ظاهرها، غير أن هاجس الكرامة, والمكانة كان وراء تلك المطالب، كذلك؛ فهل ستغادر القاهرة محيطها الضيق؟ وتستعيد بريقها الإقليمي، وفاعليتها المعهودة؟

من الناحية الشعبية, ومنذ اليوم, نحن مضطرون, لحملها على محمل الجد؛ فإن البهجة العارمة التي غمرت الشعوب العربية بما أنجزه شباب مصر, وشعبها، تعطي مصر تفويضا طالما انتظره العرب؛ لاسترجاع زمام القيادة في المنطقة، عن جدارة وحب واحترام راسخ.

ومن الجانب الداخلي المصري سيكون النظام الجديد الذي يرجح أن يعتمد الشراكة السياسية الأوسع، والتأييد الشعبي الكافي، سيكون أقدر على الانفتاح الإقليمي بثقة أكبر, بأجندة أكثر وطنية وقومية.

وسيكون الوضع الاقتصادي الذي يتوقع له التحسن والنماء رافدا قويا لكي تأخذ مصر دورها، وفي هذا السياق يتوقع خبراء اقتصاديون أن تُتبع ثورة الشباب بثورة اقتصادية بعد تغيير القوانين المنظمة للحياة الاقتصادية في مصر، وهي التي كانت تثير مخاوف المستثمرين، من الفساد المنتشر. وأنَّ التحول إلى الديمقراطية يعني أن مصر ستكون الوجهة الأولى، سواء للمستثمرين المحليين أو الأجانب. ويذكرون في هذا الصدد قناة السويس، وإيراداتها وتأثيرها على حركة التجارة في العالم، وما تدرِّه من دخول كافية على مصر .
وبعد الإصلاح الاجتماعي، والاقتصادي, والاستقرار العام، ما الذي يعوق مصر عن أن تنطلق إلى محيطها مرتاحة قوية، بكل ما تملك من بعد قومي, وثقل ديموغرافي، ونموذج سياسي يُرجى أن يكون محلَّ احتذاء, وإكبار؟!
بالطبع هذا متوقف على التوصل إلى صيغة سياسية, وإصلاحات دستورية، تعيد تموضع مصر داخليا وخارجيا.

كيف ستتشكل العلاقة بإسرائيل مع دور مصر الجديد؟
وأما العلاقة بإسرائيل, وهي التي بقيت تنتقص من مكانة مصر, أو تشكك فيها، فإنها على كل التقديرات, وعلى أكثرها واقعية لن تعود كما كانت، أيام النظام السابق، وإن كان ليس بالضرورة أن تصل إلى نقض معاهدة الصلح بين البلدين؛ ذلك أن النظام الجديد سيكون أقرب إلى نبض الشعب، أو على الأقل لن يكون في موضع المستفز له، وربما اضطررت إسرائيل، بعد هذه التغيرات المهمة في مصر, والمنطقة, أن تعدِّل من مواقفها، وتلين من خطابها, وتعاطيها مع قضية النزاع العربي الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية. وبحسب معلومات صحفية يعرب مسؤولون خفية، ووراء الكواليس، عن اعتقادهم بأن أيا من كان خليفة مبارك فسيكون أقل وداً تجاه إسرائيل.
وإذا كان الرأي العام العربي يقبل بالنموذج التركي، ويرحب- برغم البعد النسبي، والاختلاف القومي- بتركيا، بالرغم من كونها لا تقطع علاقاتها مع إسرائيل، بل، وتقيم تحالفا استراتيجيا معها، فإنه كذلك، لا يُستبعد عليه أن يتقبل علاقات مصرية مضبوطة، أو (متوازنة) معها.
وأما العلاقة المصرية بأمريكا فلن تكون أكثر حرجا لها من علاقتها بإسرائيل، ولا سيما في عهد أوباما الذي يستعيد شيئا من بريقه, بعد أن لم تقف إدارته, ضد المتظاهرين، بل دعت الجيش، إلى تجنب العنف, معهم, وثمنت موقفه مرارا، لذلك, ثم أعلن أوباما أن الثورة المصرية ملهمة أمريكا، بِسلميَّتها، وتحضرها. وروح الشباب المغيرة والتواقة إلى الحرية فيها.
وبعد أن نجحت أمريكا, حتى الآن، في تقبل ما يفرزه الشارع المصري، حتى, ولو انطوت تلك المخرجات على شرائح غير مفضلة، أيديولوجيا، وسياسيا، كالإخوان، فإن واشنطن هوَّنت من حجمهم, وقدرتهم, على الهيمنة على المشهد السياسي والاجتماعي في مصر.
وبهذا الدور الذي يتوقع أن تستعيده مصر ستكون أقدر على التوازن مع إيران، بأخذ قيادة العالم العربي، وستكون أقدر على تعامل أكثر حزما مع إسرائيل، ومن البَدَهي أن تكون كذلك, أقرب إلى النجاح في الملف الفلسطيني الداخلي. ومثل ذلك سائر الملفات المتأزمة في المنطقة العربية, والإقليم.
[email protected].