laquo; الكوارث تؤدي أحيانا إلى اليأس وأحيانا إلى ترسيخ إرادة الصراعraquo; هشام شرابي: من كتاب مقدمات لدراسة المجتمع العربي.

ليس الإحساس بالحب، أو بنوع منه، كحب الذَّكر للأنثى، أو العكس، محتاجا إلى عوامل طارئة؛ حتى يتحقق؛ فهو في تركيبة كل منهما. لكن هذا النوع من الحب يمتد، في عالمنا العربي، وتكاد أشواقه تكون الطاغية، إذ تنحسر مساحة الإنجاز الواقعي، والسياسي العام؛ فيكون لجوء الرجل إلى المرأة، مثلا، تعويضا عن تلك الإخفاقات، وتهوينا للآلام. وظاهرة التماهي بين الوطن، والمرأة، معروفة، عند الشعراء العرب المعاصرين، وكذا نشوء المذهب الرومانسي إِثْر الحروب المؤلمة التي خاضتها فرنسا، فإنها كذلك ثابتة.

خاض العرب المعاصرون حروبا خارجية، مع عدوهم الأول، إسرائيل، باءت بالفشل، وخاضوا محاولات النهوض والبناء، في الداخل فكانت الخيبة أكبر.

أحس العرب، نتيجة الهزائم الخارجية بالحاجة إلى إعادة النظر، وكان فيهم بقية من أمل، ولكن تلك المحاولات لمَّا تسفر بعد عن منعطفات حقيقية؛ فتُرجم ذلك، لدى الكثيرين، عزوفا عن السياسة, وزهدا في تداعياتها.

الحب تعويضا عن الاغتراب:
ولما أخفقت الدول والحكومات العربية في بناء مجتمعات حقيقية, يشعر أبناؤها فيها بالانتماء، توَّلد في الكثيرين إحساس بالاغتراب، حين عجز المواطن العربي عن التأثير, والمشاركة في القرارات التي تسير مجتمعه، بحسب رأي هيجل وماركس اللذين شددا على أن الاغتراب ناتج عن علاقات العجز والتهميش والاضطهاد، وهذا التهميش الناتج عن التسلط، قد يتجلى في العائلة، مثلما يتجلى في المجتمع، كما بين هشام شرابي.

وعندما يفتقد الفردُ الدفءَ الأسري الكافي، ويعززه اغتراب ما عن المجتمع الذي لا يحتضنه، ولا يشركه، في القرار والمسئولية فإنه يتجه إلى العلاقات العاطفية مع الجنس الآخر؛ لعلها تكون الشاغلةَ لتلك المساحات العاطفية والوجدانية الفارغة.

فوضى القيم:
كما أعاد حليم بركات هذا الشعور بالاغتراب إلى فقدان القيم والمعايير التي تتحكم في سلوك الإنسان، مشيرا إلى نظرية دوركهايم حول الاغتراب، وذلك عندما تتولد حالة من فوضى القيم؛ فثمة قيم سابقة غير فاعلة، تتصارع مع قيم جديدة حديثة تحاول إثبات نفسها، ولا يُحسم الصراع لأي منهما.

ولعل هذه النقطة الأخيرة هي مربط الفرس في توصيف حالة العرب الفكرية والوجدانية، فما يزالون في مرحلة التجاذب بين مكوناتهم الذاتية، والأفكار والقيم، من جهة، وكل أشكال الحضارة الخاصة التي يفرزها العالم المتقدم ماديا، من الجهة الأخرى.

وهذا ما نراه في هذه الازدواجية المضحكة لدى قسم من الشباب الذين يشدهم الدين، أحيانا؛ فيؤدون بعض شعائره، ولكنهم في لحظة تالية ينجذبون، وبشوق نحو النموذج الغربي، في الغناء، والرقص، والسينما، واللباس، والعلاقات بين الجنسين، وغير ذلك.

وكأن هذا تعبير غير صريح، أو غير واعٍ عن استلاب هذا الشاب، وانقياده للغالب، أو تعبير عن شغفه بحياة الحرية، على الصعيد الشخصي، والعاطفي.

ومن وصل منهم إلى درجة من التنصل من تلك القيم الدينية والاجتماعية فإنهم يصطدمون بتقاليد اجتماعية، وأعراف صارمة لا تسمح لهم بممارسة قناعاتهم؛ فيعيشون حالة أعمق من الاغتراب عن مجتمعاتهم، تجعلهم خارجها، سواء حققوا هذا الخروج، على الصعيد الفيزيائي، بالهجرة إلى بلاد الحرية، أم حققوه، على الصعيد الشعوري, والوجداني، بالتفاعل التام مع المنتجات الحضارية التي تجسد تلك القيم المأمولة.

وإن الإقبال على الصورة والأغنية التي تثير الغرائز، وتحرك العواطف أكثر بوضوح من الإقبال على ما سواها من المواد الإعلامية، ولا سيما من الشباب، حتى لو كانت تلك المواد الإعلامية تتناول مصالح بلادهم، وتؤثر على مستقبل مجتمعاتهم.

وقد أصبح التحدي أكبر بعد أن هبت رياح العولمة، ولم يعد بالإمكان غلق النوافذ، وإيصاد الأبواب في عصر السموات المفتوحة، والمعلومة الطائرة, والصورة العابرة للحدود.

الحب بين الجنسين، ملاذا من الواقع:
ومما يؤكد ارتهان هذا التضخم في عاطفة الحب بالحالة السياسية الكاسدة أنك تجد الحراك السياسي يدب, حين تتسارع الأحداث، وتصطرع الأطراف، وفي وقت الحروب، والمواجهات، يتحول (الكل) بقدرة قادر إلى محللين سياسيين، وخبراء استراتيجيين، ومنظرين للأفكار.

فنظرا لوجود فراغ في قلب تكويننا، فإن عامَّتنا تبدو في كثير من الحالات كالريشة في مهب الأحداث، أو المؤثرات، معظم أفعالنا ردود أفعال، لا أفعال مبادرة، في صورة بهلوانية مضحكة، يُرفع لواء الحرب؛ فيهبون وراءها، ثم يُغيَّر الاتجاه؛ فننخرط في الموجة الجديدة، حب وغرام، وأشواق. أو غيرها.

أما الحب فحالة إنسانية راقية، بما تعنيه من تناغم إنساني، يغشاه الرضى، وتكلله السعادة, والبهجة، ويتوِّجُه العطاء، بلا ترقب لمقابل، أو مكافأة. والحب يُحيل كلَّ ما يحس به المحبُّ جميلا، ومبتسما، قال ابن حزم في laquo;طوق الحمامةraquo; عن الحب:laquo; إنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة، في أصل عنصرها الرفيعraquo; فهو راسخ، وأصيل، وهو لذلك جدير بالبقاء، والاستقلال، وهو أسمى من أن يكون مجرد تعويض عن حالة يأس، أو تفريغ لشحنات مكبوتة. حينها يتلوث مفهومُه، ويغدو وظيفيا، ومستخدمُه طارىء على الحب، دخيل على مشاعره.

فاللجوء إلى الحب، أو تضخيمه، على حساب الاضطلاع بالمسئوليات, والمشاركة في حركة المجتمعات، مظهر سلبي، وهروبي، فبدلا من التفكير في وسائل أكثر فاعلية، وسبلا جديدة للنهوض والبناء ينكفىء الكثيرون نحو الأنا المغرقة في ذاتيتها، والمنطوية على هواجسها، وأشواقها المبالِغة.

وإن الخطورة في هذه الطفرة في الحب والمشاعر أنها قد تكون سببا إلى التلهي به، والخداع، والتسلية؛ ما يسبب للكثيرين الخيبات، والانتكاسات، وانعدام الثقة.

وهذا متوفر في مجتمعاتنا العربية، بكثرة، ولا سيما مع توفر فرص التواصل التي تخترق البيوت، وتهدد الأسر, دون أن يكون ثمة صدق، أو مسئولية في هذه العلاقات العابرة، أو النزوات المتعجلة.

وإننا إذ نرى للحب هذه الاستقلالية فإننا لا نعارض أبدا أن تنتقل منتجاتُه، وآليات تعامله إلى المجتمع؛ لعله يصير أكثر ميلا إلى السلم، والأمن، والوداعة.

فالحب عاطفة رحبة الفاعلية، واسعة النطاق، لا تقتصر على حب الرجل المرأة، أو العكس؛ إنه عاطفة كليَّة لا ينبغي لها أن تتجزأ، تتمظهر في حب الحياة, والناس، والجمال، بكل تجلياته، الطفولة، والبراءة، والعطاء المتفاني؛ فكيف لنفس محبة حقا، أن تمارس الحب والرقة على أعلى مستوياتها، ثم تكون أقسى الناس أفئدة، مع طفل برىء، أو عجوز فانٍ؟! وكيف لإنسان يذوق الحب، ويعيشه أن لا يحترم عواطف من هم تحت سلطانه، من أبناء وبنات، إذا اختاروا بمحض قلوبهم من يحبونهم، ثم لا تكون معارضة الوالد، لأبنائه، أو الأخ لإخوته، وأخواته، إلا بمحض الأنانية والتحكم الشخصي؟!
فكيف يفهم الكثير منا الحب؟ هل يطبعونه بأنانيتهم، ويتخذونه مهربا مؤقتا؟ أم يخضعون لمدرسته؛ فيعيد إنتاجهم، ويفيض بألطافه على تفاصيل حياتهم، وظلال مشهدهم؟
[email protected].