ما الذي وحَّد التوانسة والمصريين، على اختلافاتهم، كلٌّ ضد نظامه؟ هي دائرة ضيقة، تتمثل في الظلم الواقع عليهم جميعا، والكبت، والاستبداد، ثم هم بعد ذلك مختلفون في كل شيء، مختلفون في المرجعيات الفكرية، وفي التوجهات السياسية، وفي الأولويات، وطنية، أم قومية، أم دينية، وفي نمط الاقتصاد، وقوانين الحياة الاجتماعية، وحتى اللباس، وشكل التحية.
ورثت هذه المجتمعات إرثا من الأفكار والصراعات غير المحسومة، بين الحداثة والأصالة. ثم لم توفر لها النظم المستبدة، ووسائل إعلامها الرسمية، ولا حتى مؤسساتها التعليمية، بيئة حوارية تسمح بالجدل الحر، والعميق. وتتابعت عليها النظم المستبدة والثورية والعسكرية.
وبعد أن عرف العالم الإعلام المفتوح، ودخلت القنوات الفضائية كل بيت، ثم زاحمتها الشبكة العنكبوتية، والمواقع الاجتماعية، ومنها الفيس بوك والتوتير، وغيرها، أصبحت نافذة الحوار أرحب، ولكن العقليات العربية ما تزال، في كثير منها، لا ترقى إلى مستوى الحوار المنشود، إنَّ كثرة من الناس مرضى بالانغلاق، وضيق الأفق، وكما قال الكاتب البلجيكي موريس ميترلنك :laquo; لكي يتعلم المرء أن يحب، عليه أن يتعلم، أولا أن يرىraquo; فكيف يحاور المواطنُ العربي ابن وطنه، وهو لا يراه، أصلا؟!

الحوار ليس ترفا:
وحتى قسم من المتأدبين، إنما ينظرون إلى الحوار نظرة جمالية، كمالية، وقد أثبتت التجارب العربية الأخيرة، سواء التي نجحت في إسقاط أنظمتها، كما في تونس ومصر، أو التي تخوض صراعا مؤلما معها، كما في ليبيا، واليمن، أو التي تحاول التكوُّن، كما في سوريا، والأردن، أن الانقسام الواقع لا تَجْبره القواسمُ المشتركة، حتى لو كانت تلك القواسم في أوسع حالاتها، كما في تونس، ومصر، أو في أضيقها، أو في أقلها فاعلية، كما في سوريا والأردن. أثبتت تلك التجارب أننا بحاجة إلى جهود جدية، ومحاورات معمقة، بعيدة عن الانفعال، للاهتداء إلى الحد الأدنى من التوحد، أو آليات التوصل إلى القرار.
قد يقال إن التوحد على كل القضايا، أو معظمها، حتى، أمر خيالي، ومطلب مثالي، وهذا صحيح، لكن الاختلافات العميقة والواسعة فيما يفترض أنه مجتمع واحد، حتى تصل إلى تعريف المواطن والوطن، وولائه، وتحديد عدوه، هذا النوع من الاختلافات يذهب بمعنى المجتمع، ولا يسمح بتكوِّنه أصلا، فهل المواطن، مصري، مثلا، أو سوري، أم هو مسلم، أولا، أم قبطي، أم علوي؟ وهل الولاء الأول للوطن، أم للدين؟ أم للطائفة؟ أم لا لشيء من ذلك، إنما هو للمصلحة الفردية، ولمن يدفع أكثر؟

التوظيف الطائفي في سوريا:
وقد ظهر في التغيرات والاهتزازات الأخيرة التي تعرضت لها المنطقة العربية، وبعض الأقطار، على وجه التحديد أن لهذه الفروق آثارا فعلية لا يمكن تجاهلها؛ إذ بلغت حد إجهاض بعض التحركات والمساعي التي حاولت تجميع الناس على هدف، أو شعار؛ ليكون رافعة التغيير، ودافعه، ولكن عوامل كالطائفية أعاقته، أو خففت من زخمه، أو أبطأت من مداه، وقد ظهر ذلك، على تفاوت، في السعودية، وربما مع عوامل أخرى، وظهر بوضوح في البحرين، وفي سوريا ارتفعت بعض الأصوات التي تذكر بالبعد الطائفي في الاحتجاجات الأخيرة بين السنة والطائفة العلوية.
كما وقع من الشيخ يوسف القرضاوي، حين ندد بما فعله النظام السوري في المسجد العمري، بدرعا، فقال: laquo;الرئيس الأسد يعامله الشعب على أنه سني، وهو مثقف وشاب، ويمكنه أن يعمل الكثير، ولكن مشكلته أنه أسير حاشيته وطائفتهraquo;.
وردت عليه مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان، موظفة لهذا التصريح، بأن ثمة من يحرض على النزاع الطائفي، وأنَّ laquo; الاضطرابات في اللاذقية لم تندلع قبل خطبة القرضاويraquo;.
مع العلم أن المظاهرات في سورية بعيدة، كل البعد عن الأبعاد الطائفية، من جانب المحتجين؛ لأنهم مدفوعون بمطالب عامة، وضرورية، من قبيل الحريات، والعيش الكريم، والإصلاح السياسي.

laquo;الوطن البديلraquo; في الأردن:
وظهر إلى جانب الفرق، أو العامل الطائفي، الفرقُ الوطني، كما في الأردن، حيث تخوَّف بعض الناس، هناك، أو خُوِّفوا من أن التغيير في الأردن قد يحوِّله وطنا بديلا للفلسطينيين. وهو الأمر الذي يلقى صدى جديا، في ظل تنامي قوة اليمين في إسرائيل الذي ينطوي على هذا المشروع، وفي ظل الانسداد الذي تعرفه عملية السلام.
وبالرغم من أن المطالبين بالإصلاحات في الأردن ليسوا من ذوي الأصول الفلسطينية، فقط، ولا يقبل الفلسطينيون بالأردن بديلا عن فلسطين. ومن الواضح أن المطالبات هناك، ليست على هذه الخلفية، أصلا.
والخلاصة أن نجاح شعب عربي، أو أكثر، في إسقاط النظام، لا يعني، بالطبع أنه أنجز بناء فكريا كافيا لصياغة بنية اجتماعية قابلة للبقاء، والإنتاج. إنه لا يتعدى الفعل السلبي الهَدْمي، أما البناء فله متطلباته الأخرى، دون أن نقلل من قيمة ما أحرزه الهدم من خطوة لا بد منها، للبدء في البناء، لكن كثرة الخلافات الفاعلة وتعمقها قد يحول حتى دون الهدم؛ فكيف بالبناء؟!
بل إن مخاوف تتنامى لدى بعض العرب، وتحجم من نضالاتهم، أو تحد من آمالهم، واستبشارهم بالثورات، بسبب الخوف مما ستئول إليه، حتى لو نجحت في هدم النظام المستبد؛ لما يعتقدونه من مخاوف الحرب الأهلية، أو النزعات الطائفية، أو إعادة تشكيل خارطة المنطقة، كما في حالة البحرين، وعلاقة الشيعة هناك بإيران، وقد ظهر ذلك، جليا، من خلال تهديدات إيران بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي، ومن خلال تصريحات حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله التي جاءت ردا على تدخلات السعودية، ودرع الجزيرة.

[email protected].