تعكس الأزمة الليبية أضرار العلاقة الفاسدة بين الحاكم والشعب، ومخاطرها، إذ في الأوضاع الطبيعية يلتقي الشعب والدولة على ميثاق, وعقد, لا جدال حوله، يقوم على الحفاظ على الوطن, ومقدراته، والمواطنين وحقوقهم، دون أن تؤثر في ذلك الخلافات الطبيعية حول مواقف الحكومات التفصيلية، أو قراراتها الإدارية.

لكن البون الشاسع بين الحاكم (الموزَّع نفوذُه على ذَرَّات التراب الليبي، وفي أنفاسه الحارَّة) والشعب، يعرِّض ليبيا، الآن، إلى مخاطر تطال مصيرها، واستقلالها الوطني، ووحدة أراضيها، ومقدراتها وثرواتها النفطية، وغيرها.
ليس من السهل ترك القذافي وقواته الأمنية مطلقة اليد في جرائمها التي تنطلق دون عِقال، أو عقل: قصف بالطائرات، وإفراط في القتل، والترويع، واستئجار للقتلة، وتجاوز المتظاهرين إلى اللاجئين الذين يحاولون النجاة بأنفسهم إلى خارج الحدود.
وبالرغم من عناد المعارضين والثوار إلا أن القذافي ما يزال قادرا على إزهاق الأرواح، وبأعداد كبيرة, ولا يزال العرب عاجزين عن اتخاذ مواقف عملية، بعد أن لوَّح وزراء الخارجية العرب بفرض حظر جوي على ليبيا، بالتنسيق بين الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي.
الدول الغربية تصعِّد الضغوط الدولية على القذافي والمقربين منه، بفرض العقوبات، وتجميد الأرصدة، والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) اتفقت على وضع خطط لقواتها للتدخل في حال استدعت الحاجة، وبريطانيا تستعد لإرسال دبلوماسيين ومستشارين متخصصين إلى بنغازي، حيث معقل قيادة الانتفاضة الليبية.
لماذا تتردد أمريكا في خيار التدخل العسكري؟
كان تباطؤ أمريكا في إعلان موقفها من ثورة ليبيا مثار استغراب، ومحل تساؤل... وبعد أن مالت القوة لصالح الثوار, وأبدى القذافي وجها أشد بشاعة في البطش, وأقل احتمالا، لم تعد واشنطن، ومعها دول أوروبية قادرة على الصمت، أو الحياد؛ فحسمت موقفها، بنزع الشرعية عن القذافي، والدعوة إلى رحيله، دون أبطاء.
فمن الواضح أن القذافي لم يعد بالإمكان المتاجرة به, أو المراهنة عليه؛ فقد سقط سياسيا, بل إنه مات، بحسب التعبير الروسي... ولكن قد يعود التريث الأمريكي إلى رغبتها في تهيئة قيادة بديلة, تصلح للتعاون، ويمكن الاعتماد عليها؛ خوفا من سيطرة عناصر غير منضبطة, لا تربطهم أدنى علاقة بواشنطن، أو يُكنُّون لها العداء... وهي من أجل ذلك تجري اتصالات بالمعارضة الليبية، وكانت صحيفة laquo;لوس أنغلوس تايمزraquo; الأميركية أشارت إلى أن دبلوماسيين أميركيين بدأوا جهوداً مكثفة للتواصل مع المتظاهرين، في محاولة لمعرفة قادتهم، وما يسعون إلى تحقيقه من أهداف على المدى الزمني البعيد.
وما تزال الخشية من انفلات الأوضاع في ليبيا قائمة، عبَّر عن ذلك الموقف الأمريكي الذي حذر من تحول ليبيا إلى صومال كبير...
بالطبع لا يعود الحذر الأمريكي والغربي من التدخل العسكري إلى المخاوف من فقدان النفوذ في ليبيا، أو المصالح التي كان يسمح بها نظام القذافي، فقط، ولكن إلى جانب ذلك أسباب تتعلق بتجارب أمريكا في أفغانستان والعراق، ومن قبل في الصومال، ويصبح الحذر أكبر حين يصادف رفضا شعبيا قويا, كما في الحالة الليبية الراهنة، فضلا عن الرفض العربي، كذلك.

فلا تستطيع أمريكا، والدول الغربية أن تقحم نفسها، وفي هذه الظروف والمناخ الجديد الذي تعيشه المنطقة العربية في الخضم الليبي.

والظاهر من التحركات الدولية، حتى الآن، أنها تهدف إلى تضييق الخناق على بقايا السلطة القذافية، وإشعارها بالرقابة الدولية الجدية لكل الجرائم التي تتورط فيها، الآن، أو غدا.
التدخل الخارجي مرفوض:
ومع كل الأسف الذي ينتابنا والحزن على الدماء البريئة التي تراق، في معركة باتت محسومة لصالح التغيير في ليبيا، إلا أننا لا نملك إلا أن نشد على أيدي الشعب الليبي الذي يصر على رفض التدخل الأجنبي، مدركا المخاطر المترتبة على ذلك، أمنيا، وسياسيا، واقتصاديا، وغيرها.

وربما لا يغيب عن بال الشعب الناقم الذي أصلاه القذافي بناره طوال ما يزيد على عقود أربعة أن الغرب الذي يستفيق الآن، كان يقابل جرائم القذافي بحق شعبه، بآذان صماء، وعيون عمياء، إلا من بعض الأصوات غير الجادة التي كانت ترتفع بالنكير عليه، إما تجملا، وإما ابتزازا.

ومع هذا، وبعيدا عن لغة السياسة والمصالح، فإن العالم- ومنه الغرب، وأمريكا، وقبلهم العرب، الخارج بعضهم لتوه من إسار الاستبداد- لا يملك ترف الانتظار، ولا بد أن يتحمل مسئولياته الأخلاقية والإنسانية والأخوية، وأن يضع حدا لهذا الجنون والاستهتار الذي يتبدى فيه القذافي، ويتردى، ولو كان لمجلس الأمن استقلالية لقلنا إنه الأجدر بهذه المهمة العاجلة إنسانيا، دون أن يستتبع ذلك أثمانا سياسية، أو انتقاص لإرادة الشعب الليبي، ولو كانت الجامعة العربية، ممثلة في أعضائها من الدول العربية قادرة على التصرف المستقل لكانت هي الأجدر عربيا، بكفِّ هذا القذافي الذي فقد شرعيته، وأصبحت لحظاته الباقية أشد خطرا، وإضرارا.

ومن الناحية الواقعية، وبعد أن تقاطع الجميع على ضرورة التخلص من القذافي؛ فليس ثمة صعوبات فعلية، أو قانونية أمام إجراءات عسكرية تقطع طريق الإمداد أمام السلطات الليبية، لمنع المرتزقة الذين يستعين بهم القذافي، أو بالحد من انتقال الأسلحة, ووسائل القمع إليه. وفي هذا السياق دعا المتحدث الرسمي باسم المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا عبد الحفيظ غوقة إلى تسديد ضربات جوية تدعمها الأمم المتحدة وتستهدف قوات المرتزقة الداعمين للقذافي، دون أن يعني ذلك بأي شكل من الأشكال وجود قوات أجنبية على الأراضي.

وتبقى الحلول الأقرب هي الوسطى؛ فلا يتجه الشعب الليبي إلى قطيعة مع الغرب، ولو أنه لا يقبل بانتكاسة أخرى, أو أكبر, في العلاقة معه، بإحلال نفوذه المباشر محل سلطات القذافي المتآكلة.
[email protected].