وكأنَّ العالم العربي يدخل مرحلة جديدة, يغادر بها العربُ سلبيتهم, وتخاذلهم, يطلِّقون الاستكانة والخنوع، وينهضون إلى لحظات صدق تاريخية, تمهد لنظرة جادة في واقعهم المعاصر، والتحديات التي تواجههم، نتيجة تراكمات السنين، وغبار وقائع العصر الحديث، وترسبات القرون الماضية.

طالما طنَّ على آذاننا أنَّ العرب أمةٌ دون الأمم, تستخذي، وتذل، تتملق الطغاة, وتهادنهم، تتكيف مع كل حاكم، وتوجه وجهها شطر القوي من السلطان، والطاعةُ عندهم مقدَّمةٌ على العدالة الاجتماعية, والكرامة الإنسانية.

لابن خلدون في العرب أقوال بعضُها يُفهم منه الذم, والآخر يشتمل على المدح؛ فمما قاله هذا العلامة فيهم, ويُفهم منه الذم, أنهم laquo; لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة, أو ولاية, أو أثر عظيم من الدين على الجملة, والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض؛ للغلظة والأنفة, وبعد الهمة في المنافسة في الرياسةraquo;.

وأوضح منه قوله:laquo; فصل في أن العرب أبعد الناس عن سياسة الملك, والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعدهم مجالا في القَفْر, وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها؛ لاعتيادهم الشظف, وخشونة العيش؛ فاستغنوا عن غيرهم؛ فصعب انقياد بعضهم لبعض... ورئيسهم محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة؛ فكان مضطرا إلى إحسان ملكهم، وترك مراغمتهم؛ لئلا يختل عليه شأن عصبيته؛ فيكون فيها هلاكه وهلاكهم.raquo;

ومما يشتمل على المدح قوله:laquo; فصل في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر
وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت مهيئة لقبول ما يَرِد عليها, وينطبع فيها, من خير, أو شر... وأهل الحضر؛ لكثرة ما يعانون من فنون الملاذِّ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخيرraquo;.
فهو هنا يفضل البدو من العرب؛ لسلامة فطرتهم، وبعدهم عن تلوث المدينة.
وفي موضع آخر يرى أن البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل المدن؛ لأن البدو اعتادوا الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، وليس كذلك أهل الحضر الذين وكلوا أمر المدافعة عن أنفسهم وأموالهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم.

يربط ابن خلدون في تصوره للعرب, وسلوكهم بينهم وبين البيئة, ونمط العيش، وهذا النوع من الربط سليم؛ لأن كثيرا من المفاهيم, أو السلوكات تتغير، حين ينخرط هذا العربي في بيئة اجتماعية, مدنية، وتتكون لديه هموم جديدة وهواجس مختلفة، ومطالب تمليها عليه الحياة الجديدة.

فلا يشتمل العربي على جينات وراثية تجعله محصنا أمام الأفكار، إيجابية كانت، أم سلبية، ولا ينطوي العربي على ما يمنع تطوره وتكيفه، وأقرب مثال على ذلك التغيرات التي تمر بها المجتمعات العربية, والحراك السلمي الذي يطالب بالحقوق والعدالة، والحكم الصالح.

وها هي مصر, قلب العروبة, كما يقال, وأكثر البلاد تمثيلا لهم، تشهد إقبالا منقطع النظير على التصويت على التعديلات الدستورية, وسط حالة من الابتهاج, والرضا, بقطع النظر عن الخلاف الواقع بينهم حول التصويت عليها بـlaquo;نعمraquo; أو laquo;لاraquo;. فهل بعد هذا السلوك دليل على بداوة باقية في العرب, وتوحش؟! وهل بعد نجاح ثورة مصر السلمية قول حول سلبية العرب, وخنوعهم؟!

وها هي ليبيا, وشعبُها أكثر قَبَليِّة، قد بدأ ثورة سلمية هو الآخر, لكن القذافي استدرجه، أو اضطره, إلى المواجهة العسكرية غير المتكافئة؛ ليبطش به, دون رحمة, وليجد الوسيلة للخداع؛ بأنه إنما يقاوم تمردا مسلحا!

وها هو الشعب اليمني, وموطنُه أصل العرب، يخوض هو الآخر نضالا سلميا, برغم القمع المفرط في القتل الذي تمارسه سلطة علي عبد الله صالح, وبرغم توفر الشعب, والقبائل هناك على السلاح. ومثل ذلك، في التحركات السلمية والوعي الاجتماعي، البحرين, وسوريا.

ويمكن أن نذكر, هنا, رأيين رئيسين: رأي يقول بأن العرب وإن برزت فيهم بعض الصفات, والطبائع من مثل الأنفة التي لا تسهِّل خضوعهم, ولا تسلس قيادهم, إلا أنهم كغيرهم من خلق الله، يرتفعون, أو ينخفضون, بالفكر الذي يربيهم, وينشِّئهم، فقد كوَّنوا دولة, بعد الإسلام, وأنتجوا نتاجا حضاريا متنوعا, وغنيا لا مجال لنكرانه, وما يزال بعضه قادرا على المواكبة, والتقاطع مع أحدث النظريات, والكشوفات المعرفية, في مجالات علمية وإنسانية شتى.

والرأي الثاني لا يعلق كبير آمال على العرب, ولا يراهم جديرين بالقيادة, وقد أسرع الفساد إلى تجربتهم في الحكم, منذ الخلافة الراشدة, أيام عثمان, وعلي, ودبت الفتن المذهبية والسياسية التي ما تزال آلامها سارية في جسد الأمة حتى اليوم.

وقد كان المبادر إلى تحويل الخلافة إلى وراثة معاوية بن أبي سفيان العربي الأموي, وسكت عنه العرب, أو ساندوه, في هذا الاستفراد في الحكم, والافتئات على حق الناس، حين أخذ الخلافة لابنه يزيد، وأجبر العبادلة الأربعة, عبد الله بن عباس, وابن عمر, وابن أبي بكر وابن الزبير على مبايعة يزيد.

ثم غلب الرأي الفقهي القائل بشرعية الحاكم المتغلب، إذا سكت الناس عنه؛ حقنا للدماء, ومنعا من إثارة الدهماء.

ولكن هذه المرحلة الأولى من تاريخ العرب السياسي في ظل الإسلام لم تكن عربية صرفة, فقد خالطها بعد ذلك عناصر غير عربية, وحتى معاوية كان اتهم, حين حوَّل الخلافة من الشورى إلى الوراثة, بأنه قد سار في المسلمين على سنة هرقل وقيصر, كما اتهم من قبل بالكسروية أي التأثر بنمط الحكم الفارسي. فالاستئثار بالحكم نزعة شخصية, وإن كان يؤخذ على الأمة الرضا بذلك، بتغليب السلامة، و(فقه الطاعة) في غير موضعه.


ومهما يكن فإن هذه الروح التي تسري في أرجاء العرب اليوم, منذ تونس, ومصر, إلى ليبيا واليمن, ثم سوريا, وغيرها لتدل على تقدم العرب خطوة إلى الأمام, نحو استعادة معنى مهما من إنسانيتهم, ألا وهي استرداد القرار, وفرض شخصية الشعوب, في مرأى الحاكم, ومسمعه.
وهي تعكس ثقة بالذات, ؛ فهم بعدها، أجدر بأن يحترمهم الناس؛ لمَّا احترموا أنفسهم.
[email protected].