الهمُّ الأكثر حضورا، الآن، في سورية، إنساني، وينبغي أن يظل هامشٌ، في الحياة، وحتى وقت الخلافات، والحروب، للاعتبارات الإنسانية، والخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزُها؛ لما لتضييع ذلك، من آثار تدميرية على مستقبل العلاقات، حتى بين المتحاربين. فثمة أخلاقيات لا بد منها.
والهم الإنساني الأكثر إقلاقا، اليوم، هو اللجوء, بكل ما تعنيه الكلمة من قسوة، وانتظار للمجهول، بعيدا عن الوطن، والسكن؛ بما يعنيه من أمن، واستقرار، وعلاقات إنسانية تجعل للحياة معنى اجتماعيا ضروريا.
ولا نبالغ، لو قلنا: إن الذي يتحمل المسئولية، هو الدولة، بالدرجة الأولى، ومهما كانت الظروف، والدوافع؛ فإن الدولة التي يفرُّ منها ما يزيد عن عشرة آلاف شخص، ولا يجرؤون على العودة، إليها، قد افتقدت إلى أهم واجباتها، ومسوغات بقائها، وهو توفير الأمن لمواطنيها.
هذا البعد الإنساني المنتَهك، على نحو يستخف بالعالم، والإنسانية لا يقلُّ أثرُه في قصف عُمْر النظام في دمشق، عن العوامل الأخرى: الاقتصادية الداخلية، والأمنية، والاعتبارات السياسية المتعلقة باستقرار المنطقة، وانعكاسات فتح جُرْحٍ جديد، بعد العراق، على دول المنطقة، وعلى مصالح الدول الكبرى فيها.
الضغوط الدولية تزداد:
بعد المهلة التي أعطتها الولايات المتحدة للنظام في دمشق، للإصلاح، ولم يحسن استثمارها، تسارعت المواقف الدولية، والأمريكية التي تنعي نظام الأسد، وتحضِّر لما بعده. وهذه المرحلة لا ريب، من أخطر المراحل؛ لأن المعالجة لن تكون أمنية، فقط، بل إنها ستبدأ بالميل نحو اليأس، والتصرفات غير المسؤولة؛ ذلك، إذا اقتنع النظام أنه لن يخسر أكثر، دوليا.
بالطبع ثمة شبح المحاكمات الدولية التي تهدد أركان النظام، والموجِّهين للقتل، والترويع، والتشريد، وحصار المدن، ومنع وصول الطعام والأدوية، إليها، فيما يرقى إلى جرائم حرب.
ولكن، من الناحية السياسية، لم يعد للنظام ما يخسره، من الغطاء الدولي، اللهم إلا إذا غيرت روسيا والصين من موقفيهما، بعد أن يتواتر الضغط الدولي عليهما، ويزيد حرجهما، من جرائم النظام الذي توفران له غطاء دوليا محدودا.
فهل تنزلق البلد إلى أزمة طويلة؟
والسؤال الإنساني الكبير هنا: هل تستفحل الأزمة؟ وهل يطول أمد التشرد؟ وهل تنزلق البلاد إلى حرب داخلية، أو فتنة طائفية؟
عوامل قوة:
يتوفر النظام في سورية على عنصر لم يتوفر في تونس، ومصر، ولا في ليبيا، وحتى في اليمن، إنه التماسك الملحوظ في القوة الأمنية والجيش، ولا تزال الانشقاقات محدودة، وفي رتب متوسطة، محدودة الخطر.
وعلى الصعيد المالي لا يزال النظام يتلقى دعما من رجال أعمال ومال في سوريا، وإن بدأ قسم منهم، يدعم المتظاهرين.
والنظام لا يزال يتلقى دعما سياسيا، من جارته، إيران، وإن تنامت ردود الفعل الغاضبة من الجارة التي لا تقل أهمية، وهي تركيا.
ومع استمرار الاحتجاجات، يتطلب التصدي لها تمويلا إضافيا، ويهدد باستنفاد موارد الدولة, وفي الوقت الذي تعجز فيه الدولة عن توفير الرواتب؛ فإن أسباب التمرد تزيد في أوساط الموظفين والعسكريين.
تتأرجح التقديرات حول الوضع الطائفي في سورية، ولا سيما النظرة إلى الطائفة العلوية التي يشيع أن النظام يستخدم قسما من أبنائها في التصدي للمتظاهرين، والمناوئين له. بالطبع لا نملك يقينا بعدم انجرار بعض المعتدى عليهم إلى أعمال انتقامية.
لكن الثورة وحراكها وشعاراتها، على الضد من مثل هذه التوجهات؛ فقد كانت الجمعة الأخيرة تحت شعار laquo;جمعة الشيخ صالح العليraquo; برمزيته الوطنية المصرة على وحدة سورية، والرافضة للانخراط في اللعبة الطائفية.
ومع ذلك، فإن عامل الوقت يلعب دورا لا نستطيع تجاهله؛ فقد يصعب ضبط الشارع، ولا سيما، والنظام لا يتورع عن التسبب بتلك الشكوك، والمخاوف الطائفية.
الدول الكبرى مدعوة إلى الحسم:
وهنا، وفيما يتعلق بعامل الوقت، ومدى laquo;صمودraquo; النظام يتعانقُ العاملُ الداخليُّ والخارجي، ويغذي الأولُّ الثاني، أكثر مما يتأثر به. وأَمَا وقد نفضت الدولُ الكبرى، أو أهمُّها، يديها من نظام الأسد؛ فإنها تملك من الدوافع ما يدعوها إلى الإسراع في مَلْء الفراغ الذي سينجم عن ضعف سيطرة الدولة في دمشق، والحد من تداعيات الأزمة على الدول المجاورة، ولسورية خصوصيتها، بموقعها، ودروها، ونفوذها الإقليمي، ولا سيما في لبنان، والعراق، وفلسطين. وهنا عامل مهم، وهو إسرائيل التي بدأت، هي الأخرى، تيأس من المراهنة على نظام خاسر، وبدأت ترى فيه الأضرار، أكثر مما ترجو منه من المنافع.
وتعكس أقوال وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، الأخيرة سعيا أمريكيا جديا للاستغناء عن نظام الأسد، إذ قالت:laquo; فإذا كان الرئيس الأسد يعتقد أنه يستطيع المضي في ما يقوم به، دون عقاب؛ لأن المجتمع الدولي يأمل في تعاونه في القضايا الأخرى، فهو أيضا مخطئ في هذا. ومن المؤكد أنه يمكن الاستغناء عنه وعن نظامه.raquo; ثم تابعتْ، تبيِّنُ أثرَ الاستقرار المُهَدَّد في التخلي عن الأسد:laquo; وقد تستطيع دولة سورية أن تنعم بالوحدة والديمقراطية والتعددية، وأن تلعب دورا إيجابيا ورائدا في المنطقة، ولكن سورية، في ظل الرئيس الأسد أصبحت مصدر زعزعة للاستقرار بصورة مطردة. فتدفق اللاجئين على تركيا ولبنان، وإذكاء التوترات في الجولان هما برهان يبدد التصور بأن النظام قلعة من الاستقرار الإقليمي يجب صونها.raquo;
هذه المواقف الأمريكية تعين على الاعتقاد بأن واشنطن ستعمل على أن لا تطول الأزمة؛ لأهمية استقرار سوريا في استقرار المنطقة... ولذلك تكثفت الجهود الدولية، وهذا بدأ من خلال سعي الولايات المتحدة إلى تحرك دولي خارج الأمم المتحدة، في الوقت الذي تستمر في واشنطن في محاولاتها لإقناع روسيا والصين للتصويت لصالح قرار أممي يدين النظام في سورية.
وبموازاة ذلك فإن القوى المطالبة بالتغيير ستكون أكثر تطلبا للاتفاق حول قواسم مشتركة، لبلورة خطوط متفق عليها.
مع هذا؛ فإننا لا نستهين بـlaquo;إصرارraquo; النظام، على البقاء، وقد بدت علاماتُ ذلك، من أول يوم، بهذا القدر الفائق من الوحشية، حتى إعلان حرب حقيقية على مدن، ومدنيين، كما لا نقلل من حجم الولاء في داخل الجيش, والمؤسسة الأمنية.
ونأمل أن يتم الخلاص لسورية من هذه الأزمة الخطرة، عليها، وعلى المنطقة، بأقل الخسائر، وأن يرتفع الجميع عن الردود الثأرية، أو التوجسات إلى خطاب يوحِّد، ولا يفرِّق، ويسلط النضال، على السلطة التي فقدت شرعيتها، وآن للشعب السوري، بكليِّته أن يتفق على المرحلة المقبلة، ومعالمها.
[email protected]
التعليقات