الناس بطبعهم، يتخوفون من المستقبل، ولذلك يميل كثير منهم إلى المحافظة، ولا يحبذون التغيير، مع أن التغيير ضرورة من ضرورات الحياة، وسنة من سنن المجتمعات.
فإنك لن تعبر الجسر مرتين، ومنْ ذا الذي لا يتغيُّر؟!

وأما حالتنا العربية التي طال جمودُها؛ فإنها قد أفرزت أوضاعا فاسدة، وأنتجت فئات منتفعة، بل, حتى إنها خلَّفت أفكارا متخلفة، ومنها ما يتقاطع مع المثل الشعبي:laquo; خليك عـ منحوسك لا يِجِيك أَنْحسraquo; أي: ارض بما أنت عليه, ولو كان جالبا للشؤم، والضرر, لأنك قد تُصاب، في حال ذهابه، بما هو أشدُّ شؤما، وأفدح ضررا.

ومناسبة هذا الحديث ما ينتاب الكثير من العرب من قلق حيال موجة التغيير, والمطالبات به في عدد من الأقطار العربية، ومنها سوريا، واليمن، وقد أصبح لهذه التخوفات أسبابٌ وجيهة، بعد ما حلَّ بليبيا، من حرب دائرة بين الثوار, والقوات الموالية للقذافي، وبعد أن لم يَحْسم التدخلُ الأجنبي، ممثلا في laquo;الناتوraquo; النزاع، لصالح الثوار.

ولم يكن اليمن الذي يشهد صراعا بين القوات الموالية للرئيس علي عبد الله صالح، وقبيلة الأحمر، وصل حدَّ الاشتباك العسكري الضاري, حتى لاح لأهل اليمن شبحُ حرب داخلية، إن لم تكن حربا أهلية، وتنامت الخشية من أن تغطي هذه النزاعات العسكرية، في حال استمرت، على التظاهرات السلمية المطالبة برحيل الرئيس، وتأسيس دولة صالحة على أنقاض laquo;صالحraquo;.

وحتى تونس، وهي السابقة في مجال الثورات، لم تنجح، حتى اليوم، في الخروج إلى حالة الاستقرار، والأمن.
وقُلْ مثل هذا، عن مصر, وأكثر، وهي الأبعد أثرا في نفوس العرب، والأقدر على أن تكون محلَّ احتذاء. فمصر، بعد نجاح الثورة، ظلت تشهد نزاعات طائفية، بين المسلمين، والأقباط، وآخر الأخبار في هذا التهديد : ما كشفت عنه مصادر إعلامية مصرية، بأنّ القوات المسلحة لديها وثائق تشير إلى مؤامرةٍ لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات:laquo;نوبية ونصرانية وإسلاميةraquo;.
كما ظل الأمن، في أرض الكنانة، مهددا من بلطجية، لم تفلح الدولة في ردعهم تماما. وآخر تجليات البلطجة ما هزَّ الرأي العام المصري والعربي: حادثة laquo;اختبار العذريةraquo; التي تعرضت لها المتظاهرات المصريات يوم 9 مارس / آذار الماضي، في أحد المعسكرات التابعة للقوات المسلحة.
لم كل هذا الخراب، إذا طولب الحاكم بالتغيير؟
بالطبع قد يكون ثمة حاجة لمحاولة تفسير الظاهرة: لماذا يترتب كلُّ هذا الخراب، والدماء, على محاولة تصويب الأوضاع في أقطار عربية؟

ولماذا تنفتح تلك البلاد التي انخرطت في التغيير على مصير مخيف، ومقلق، حتى تقسيم البلد، أو السقوط في حفرة الحرب الأهلية, أو الطائفية؟ أو دخول المجتمع كله في حالة من الفوضى، واضطراب الأمن؟
قد لا نضيف جديدا، إذا قلنا: إنه الخلل في البناء، وlaquo;الاستقلالraquo; المنقوص.

فمن الناحية الفكرية لم تصل المجتمعات العربية إلى قدر من التجانس، أو التوحد على مرجعية فكرية، أو حتى إن الشعوب العربية لم يُتح لها؛ بسبب النظم الاستبدادية التي حكمتها، وبسبب إرث تاريخي، قبل ذلك، أن تبلور آلية راسخة لحل المشكلات، أو حسم الخلافات؛ فلا تقبُّلَ للرأي المخالف، ولا سلوك للطرق العقلانية، والإقناعية، في الوصول إلى السلطة، بقدر ما هو التجييش، وتهييج المشاعر، والتهديد، والتصفية الفكرية، والإلغاء, كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

ومن الناحية السياسية أتيح لذلك النوع من النظم المتألِّهة أن تنفث روحها في البلد، والشعب؛ حتى بات نزعُ تلك الروح الشريرة موهما بنزع روح البلد، وهكذا تطلَّب التغييرُ تضحيات غالية, وخسائر فادحة، وفترة زمنية قد تطول، فقد ربَّت هذه النظم أجهزة أمن محظيَّة، ولاؤها للحاكم، لا للدولة، أو للشعب. وإن توهموا العكس، أو حاولوا الإيهام بذلك.

بالطبع، هذا يتفاوت من بلد إلى بلد، وإن كان ينطبق على كل التشكيلات الأمنية، وقد لا ينطبق، بنفس الدرجة على الجيوش، والقوات المسلحة.

ومثل القوى الأمنية، وليس أقل منها تشبثا بالحاكم، أو دفاعا عنها تلك الفئات المنتفعة، وما يعبر عنه بتحالف المال مع السياسة.

ومن الناحية الخارجية لا يمكن إغفال القوى الدولية التي وجدت ضالتها في هذه العلاقة المضروبة بين السلطة والشعب؛ فدخلت من هذه الفجوة، ورضي الحاكم أن يتخذ من الدعم الخارجي ضمانة لبقائه, وإن كانت تلك القوى الخارجية لم تكن في بلادة بعض الحكام؛ فحفظت لنفسها خط الرجعة، أو حاولت، كلما وجدت الشعب ثائرا، على حاكمه، ومصمما على خلعه.
ولهذه المخاوف، وما شابهها يتردد كثير من الناس في الانخراط في التظاهرات والحراك السياسي الهادف للتغيير, لا أنهم، في الأغلب، يحبون الحاكم، أو يجدونه مثاليا، إنما يتخوفون من الأسوأ.
فهل مثل هذه الوقائع، ومثل تلك المخاوف تكفي سببا للكف عن المطالبة بالتغيير؟
ولو أقمنا موازنة بين دواعي التغيير, بل، موجباته، وبين دواعي الحفاظ على الفساد والظلم الذي ترعاه الأنظمة المستهدفة, أي الكفتين ترجح؟

إن أي عمل، ولو كان فرديا وبسيطا لا يخلو من مخاطرة، فمن يتاجر معرض لخسارة رأس ماله، ومن يسافر للتعلم، معرض للفشل، وخسارة وقته، وربما ما هو أثمن.
وهكذا؛ فلا بد من موازنة؟

ثم أليس الوضع الراهن لتلك الدول كان خطيرا؟ ألم تكن مصر قبل الثورة مشغولة بحديث الفتنة الطائفية؟ ومُحرَجة من ظاهرة التحرش الجنسي، مثلا؟ فضلا عن الفقر والبطالة, والفساد المستشري؟ ولو استمرت على تلك الوتيرة؛ فالله وحده يعلم إلى أين كانت تنهي؟
أولم يكن اليمن على وشك أن يصبح دولة فاشلة؟ حوثيون في صعدة، وحراك في الجنوب, وغير ذلك من فقر موجع، وفساد سياسي.

ربما تتلخص المعضلة في حلقة شريرة نمرُّ فيها، أو نتورط، الحكام يعوقون إنضاج حالة سياسية وفكرية سوية, وإزالة الحكام يفتح الباب على مجتمع غير ناضج للتغيير، ولكنها، خطوة لا بد منها، حتى تبدأ حالة المخاض التي لن تكون سهلة، ولا عديمة السوء، ولكنها استحقاق لا بد منه، وهكذا الثورات لم تحقق أهدافها بين عشية وضحاها.
[email protected].