ماذا يضير النظام في سورية مثلا، لو أقر بأن تغيرا طرأ على تطلعات شعبه, واستجاب لهذا التطور؟!
وماذا يضير سورية، الوطن، والشعب، لو جدد نظامه؟! بما يجدد دماء البلد، ويراعي مطالب الناس، ويشركهم في رسم حياتهم، والبحث عن تجربة جديدة في النهوض والتنمية والحياة المدنية التي تراعي حقوق الناس البَدَهيَّة، وتحررهم من خوفهم من الدولة، وأجهزتها الأمنية؛ لتصبح الدولة ممثلة لهم، تجسِّد إرادتهم، بانتخابات حرة ونزيهة؛ ليتحرروا من هذا النمط من الحكم الذي لم يحقق إنجازات داخلية، تُذكر، بالقياس إلى ما كان يُفترض أن يحققه، ولا خارجية... وقد استأثر بالبلد، ومقدراته كاملة, ودون منازع، أو منافس، طيلة عقود زادت على الأربعة؟!

التنازل عن الحكم فضيلة تاريخية:
في التاريخ العربي الإسلامي مثلا، حادثتان مشهورتان، تنازل فيهما المتنافس، أو الحاكم عن فرصته في الحكم؛ أو عن طريقته فيه؛ توحيدا للناس، في ذلك الوقت، كان الأول الخليفة عثمان بن عفان الذي وافق على أن يَحْكُم الناس بطريقة الخليفتين، من قبله، أبي بكر، وعمر؛ لمَّا علم أن الناس يفضلون هذا النهج في الحكم.
وكانت الثانية، ولعلها الأدلَّ، عندما تنازل الحسن بن علي، عن الرئاسة، لمعاوية بن أبي سفيان؛ لمَّا كادت تندلع بين جيشيهما حرب؛ إنهاء للفتنة، ومنعا من إراقة الدماء، برغم ما كان يتمتع به من laquo;شرعيةraquo; التأييد من أتباعه، ومحبيه، وهم كثر؛ لمكانته الدينية، وهو سِبْط الرسول، عليه الصلاة والسلام.
إن رجل الدول الحق، هو الذي يملك من الرؤية والقدرة والشجاعة؛ ما يؤهله إلى إنفاذ قرارات جريئة تتجاوز المصلحة الشخصية، أو المصلحة الحزبية الضيقة، ويكون هو فاتحة تحول إيجابي لشعبه.
فعلى المعنيين بالأمر في سورية أن لا يستمروا في المكابرة؛ فليس بالإمكان الاستمرار في المماطلة والتسويف والخداع....
عليهم أن يقروا بأنه لا يمكن المُضيُّ في الحياة السياسية، كما كانت من قبل هذه الموجة المتوسعة المطالبة بالتغيير، بعد أن تبخرت الثقةُ بالنظام... وبعد أن جرى الدم في شوارع المدن والقرى السورية....

خطر الاقتتال، أو القتال:
واليوم, وقد مضت على الأحداث أكثر من مئة يوم، فإن الزمن لا يعمل لصالح النظام؛ حيث التظاهرات في توسع زمانا، ومكانا، وعددا، وحيث الانشقاقات في الجيش مستمرة، وحيث الانسحابات من مؤسسات الدولة قد بدأت، كما كان من الكاتب ومعدِّ البرامج في التلفزيون السوري، فرحان المطر الذي أعلن استقالته من عضويته في اتحاد الكتاب العرب، ومن التلفزيون بسبب laquo;الكذب والتضليل والتجييش الأعمى، ضد الشعب وتبريره لجرائم النظامraquo;.
بعد كل هذه المعطيات، واستمرار النظام في سياسته الأمنية، فعلا، والحوارية، قولا، وشعارا هناك خطران يهددان سورية؛ إذا لم يستجب النظام، الأول: الاقتتال الداخلي, وله أسباب معروفة، ليس أقلها القتل، والمعالجة الأمنية التي تسبب الاحتقان، وتعزز دواعي الثأر... وفرص هذا الخطر لا يستهان بها، وتداعياته خطرة، لا جدال.
والثاني قتال خارجي، ضد تركيا، بعد اقتراب الجيش من الحدود التركية، وارتفاع التوتر بين البلدين، بالرغم من أن هذا الاحتمال ليس سهلا، ولا مصلحة للنظام في سورية في التورط به، إلا إذا يئس، وأراد صرف الأنظار عن أزمته الداخلية؛ ليؤكد المؤامرة الخارجية الذي يلمح إلى كون تركيا طرفا فيها.
وكلا هذين الخطرين: الاقتتال الداخلي، والقتال الخارجي، ليسا من مصلحة الشعب، ولا المتظاهرين، وإن كانا قد يكونا في مصلحة النظام، في وقت اليأس؛ بغية خلط الأوراق، وإدامة الأزمة، وقد ألمح بشار في خطابه إلى إمكانية أن تطول.
وإن كان احتمال الاقتتال الداخلي أكبر، وهو أقل كلفة للنظام؛ لأن الدخول في حرب مع تركيا مغامرة خطرة، ولها تكاليف، ليس أقلها المالية التي لا تحتملها خزينة الدولة؛ فهي تئن من تكاليف المظاهرات الشعبية؛ فكيف تكون، لو تفجر نزاع مسلح، مع تركيا التي لا يستهان بها، من الناحية النسبية؟!
وقد بذل النظام البعثي، في سورية، الغالي والنفيس؛ لتجنب حرب مع تركيا، في الفترات السابقة، وقدم التنازلات من أجل ذلك. ورضخ للتهديد حين تخلى الأسد، الأب، عام 1998م عن الزعيم الكردي، عبد الله أوجلان، وأجبره على مغادرة سوريا؛ إثر تهديدات تركية علنية، وبعد دخول 29 ألف جندي تركي إلى الأراضي السورية من منطقة غازي عنتاب الحدودية.
كما تخلى بشار عن لواء الإسكندرون، عندما قررت القيادة السورية التغاضي عن المطالبة به، والقبول بإيراد نص في الاتفاقيات الموقعة مع أنقرة يتحدث عن حدود تركيا الحالية، وثمة إشارات أخرى على تخليه عنه؛ تملقا لأنقرة، ولم يكن ذلك التنازل تحاشيا لحرب وشيكة، ولكنه كان إمعانا في التقرب؛ لتحسين العلاقات والرقي بها إلى الصفة الاستراتيجية في اتفاقات اقتصادية أضرت بقطاعات تجارية سورية أكثر مما نفعت...
واليوم تقترب القوات السورية من الحدود في ظل هذا التوتر بين البلدين، والشعب على أقل أحواله، يشهد انقساما حادا, وكان بشار أقر بصراحة في خطابه الأخير، بأن معظم الشعب السوري لا يدعم الدولة، وليس منحازا إليها، حين قال:laquo; إن للدولة حجما من المؤيدين وللمعارضة حجم، ولكن الحجم الأكبر ليس مع هذا ولا ذاكraquo;، وكونه ليس مع الدولة يعني أنه لا يراها دولته، بالطبع، وليس هو حريصا للدفاع عنها، حتى لو لم يرتضِ المعارضة الحالية. ثم يأتي محلل سياسي، يؤيد النظام بلا ذكاء، بعد هذا الحديث الصريح، ويقول إن الغالبية العظمى مع الدولة؛ ليكون مَلَكيًّا أكثر من الملك!
ففي مثل هذه الظروف الداخلية، والحالة الشعبية لا تُخاض حروب تفيد البلد، إلا أن تكون فائدة النظام، قبل, بل ضد فائدة البلد.

فمن الذي يهدد بالاقتتال؟
إن الذي يتحمل المسئولية الكبرى، الأخلاقية والسياسية هي الدولة؛ لأنها هي التي يفترض فيها (الصفة العاقلة)، والحرص على سلامة البلد، ولا يجوز لها أن توفر أسباب الاقتتال، وتقود إليها ثم تنكص على عقبيها، متبرئة منها، يفترض في الدولة أن تبادر إلى إنقاذ الوطن، وتعيد الكلمة للشعب.
لا تهاون في سلمية التظاهرات:
وإن من يتورط في مثل هذه الأعمال إنما يساعد النظام على التملص من مأزقه، وهذه التجربة الليبية حاضرة... تدوم الأزمة، أو تُدوَّل، أو تصبح مطحنةً لأرواح الناس ومصائرهم ومستقبلهم...
وينبغي على القوى المطالبة بالتغيير داخليا وخارجيا أن تؤكد على رفض هذا النهج والتحذير منه، وأن لا يَسْمح المتظاهرون لأيٍّ كان، باستغلال تجمعاتهم السلمية، والانحراف بها، على دوامة العبث، بكل السبل الممكنة، ومن أهم المرتكزات رأي شعبي عام يحرِّم ذلك، ويجرِّمه، وينبذ من يتورط فيه، أو يدعو له.
[email protected].