بين المحافظين الجدد، والفكر اليميني, وبين الحزب الديمقراطي، وأوباما- بعد أن ورَّط بوش الابن أمريكا في مستنقعات العراق وأفغانستان، وما جرَّه ذلك من نفقات أسهمت في الأزمة المالية الباقية- بين هذين الطرفين مسافةٌ تسمح بتعاطٍ مختلف مع التيارات الإسلامية في منطقتنا.
ومِنْ أقصى اليمين الأمريكي الذي يرى الإسلامَ نفسَه السببَ في الإرهاب، إلى أوباما الذي خطب في أهم البلاد الإسلامية: مصر وتركيا، متقربا، ومحاورا (ولنا أن نلحظ ارتباطا تتزايد فرصُه؛ بسبب التقدم والتألق الذي حققه حزبُ العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية، بين النموذج التركي والنظم العربية المتشكلة بعد الثورات) بين ذاك اليمين الضائق ذرعا بالإسلام، والمسلمين، وبين أوباما الذي يغلِّب الاعتبارات النفعية على سواها، ويرفض فرْض الديمقراطية، والقيم الأمريكية، مسافةٌ تسمح بتحسس مواطن laquo;الاعتدال والوسطيةraquo; في حركات إسلامية، لا تتورط في العنف، وتقبل باللعبة الديمقراطية.
وليس هذا الخيار الذي يقبل بالتعامل مع laquo;الإسلام المعتدلraquo; جديدا في الفكر السياسي الأمريكي، بوصفه حلا لمشكلة laquo;الإسلام الراديكاليraquo; أو أسلوبا للحد منه. ففي عام 2004م
أصدر مركز laquo;راندraquo; البحثي الأمريكي كتابا في أكثر من 500 صفحة لبحث التفاعلات والديناميات المؤدية إلى حدوث التغيرات التي شهدها المسرح الإسلامي، بعد أحداث 11/ 9 . وكان من أبرز ما دعا إليه مما نحن فيه:laquo; إدماج الإسلاميين في السياسة العامةraquo;
وأوضح قائلا:laquo;هناك اعتقاد سائد يقول: بمجرد وصول الإسلاميين إلى السلطة؛ فستكون هناك قطيعة مع الديمقراطية والحرية؛ إلا أن الكتاب يأمل في انقشاع ذلك الخطر تدريجيا، إذا ما تدرب الإسلاميون -تدريجيا أيضا- على التعامل واقعيا وتطبيقا مع المؤسسات الديمقراطية. وهذا لن يتأتى إلا من خلال انخراط الإسلاميين (حتى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر) في داخل العملية الديمقراطية؛ فذلك هو خير ضامن لإنهاء حالات العنف المتفشية وسط الإسلاميين، كما يرى الكتاب. raquo;
ومن ناحية المراهنة على الإخوان، أمريكيا، وغربيا، في الحكم؛ فإن الحركة مشهود لها من أوساط غربية عديدة بسرعة التكيف مع الديمقراطية، وبأنها الأفضل تنظيميا، فبعد أن رأت صحيفة 'الإندبندنت' البريطانية الصادرة مؤخرا في الاتصالات الأمريكية الرسمية بالإخوان 'اعترافا بالحقائق السياسية الجديدة في أهم دولة بالعالم العربي، حتى لو أقلق ذلك إسرائيل. قالت:laquo; إنه مهما كان الرأي بشأن جماعة الإخوان،إلا أنها 'الأفضل تنظيما بين جميع الأحزاب التي تعتزم المشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية نهاية العامraquo;.
كما قالت مجلة التايم الأميركية:laquo;إن من بين كل الجماعات السياسية التي ظهرت، منذ سقوط نظام مبارك، يبدو أن جماعة الإخوان المسلمين هي من لديها أفضل فهم للطريقة التي تعمل بها الديمقراطيةraquo;.
وبعد أن أسفرت الثورة المصرية عن جماعة الإخوان المسلمين، قوةً لا يُستهان بها، ولا يُعدم الأملُ في التوصل معها إلى مناطق مشتركة للتعاون في تشكيل الوضع السياسي في مصر، ولتجاوز المرحلة الانتقالية، فإن صانع القرار الأمريكي مضطر إلى التعامل معها.
في هذه المرحلة التي تضطر فيها واشنطن إلى تخفيض سقف الأهداف، والعمل على احتواء التغيرات في العالم العربي. وكما خفَّضت من سقف أهدافها في العراق، وأفغانستان، فإنها ستضطر إلى التقاط المصالح المشتركة بينه، وبين الإخوان المسلمين، والبناء عليها.
من حيث المبدأ صدر التوجه الأمريكي بالقبول بمشاركة الإخوان، أو حزبهم الجديد:laquo;الحرية والعدالةraquo; في الحكم في مصر، وهذا يتساوق والأجواء الديمقراطية التي تمتد في العالم العربي، كما يتفق، من الناحية العامة، مع التوجه الأمريكي في قبول التعددية السياسية، والمشاركة، بعد أن طُويت صفحة الدكتاتورية والاستبداد، وحكم الحزب الواحد، وتزوير الانتخابات.
وينص حزب laquo;الحرية والعدالةraquo; في برنامجه السياسي على مجموعة من الأهداف منها:
laquo; * تحقيق الإصلاح السياسي والدستوري، وإطلاق الحريات العامة، وخاصة حرية تكوين الأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني، وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقًا للدستور الذي يقره الشعب بحرية وشفافية.
bull;اعتبار الأمة مصدر السلطات، والشعب صاحب الحق الأصيل في اختيار حاكمه ونوابه والبرنامج الذي يعبر عن طموحاته وأشواقه .raquo;
وهذان المبدآن من أهم مرتكزات الحياة الديمقراطية، والمجتمع الديمقراطي.

وماذا عن إسرائيل؟
والإخوان المسلمون، بدورهم، سيكونون مطالبين بإبداء مزيد من الليونة، وlaquo;الواقعيةraquo; وهذا من جهة الداخل المصري ممكن، ولكن الموقف من إسرائيل يبقى محل خلاف، بين الطرفين، أو مجالا للحرج، لكليهما. وكان صدَر عن الإخوان موقف laquo;مخففraquo; من معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. حين قالت: إنها لن تطالب بإبطالها، وأن جماعة الإخوان المسلمين تلتزم بالاتفاقات التي وقعتها مصر, والعلاقات الخارجية.
ولكن إسرائيل والأوساط المؤيدة لها في أمريكا لا تقبل بهذا القدر من laquo;التخفيفraquo; ولا تزال ترى في الإخوان جماعة معادية، ولا تنسى لها علاقتها بحركة حماس، على الرغم من التغيرات التي أحدثتها الأخيرة على مواقفها المتعلقة بإسرائيل؛ إذ أحلَّت مطلب الدولة الفلسطينية، في حدود الرابع من حزيران، محلَّ الدعوة إلى تدمير إسرائيل، في خطابها السياسي، وعدَلَت عن قتل المدنيين الإسرائيليين، واتخذت سياسة الدفاع المنضبط، منذ الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة.
وحتى الآن يبدو أن الاتجاه الذي يغلِّب المصالح الأمريكية الأوسع على المطالب الإسرائيلية الضيقة هو الأفْعَل، في السياسة الأمريكية، تجاه الإخوان، ومصر. ولا يستبعد أن تتكثف الضغوط الأمريكية على الإخوان، من أجل إبداء مزيد من laquo;الليونةraquo; تجاه إسرائيل، وقد لا يكون مصيرها الإخفاق التام؛ ذلك أن الذي جعل الإخوان يقبلون بالمعاهدة الموقعة بين مصر وإسرائيل عمليا، قد يسوِّغ لهم إبداء مزيد من laquo;التنازلraquo; العملي، أو اللفظي، على الرغم من حساسية هذه القضية لدى قطاعات واسعة في الإخوان، وهذا بالطبع قد يعرِّضها إلى نوع من التصدع، وهي تنخرط في هذه التجربة الجديدة؛ فإن لها استحقاقاتها.
ومما يجدر تذكرُّه عن الإخوان المسلمين laquo;الواقعيةraquo; وlaquo;البراغماتيةraquo; وlaquo;القُطْريةraquo;.
وتجاربُهم السياسية، وتاريخهم يؤكد ذلك، كما وقع من laquo;الحزب الإسلاميraquo; الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين الذي شارك في مجلس الحكم الذي شكلَّه الاحتلال الأمريكي في العراق.
وكمثال على احتكام كلِّ جماعة إلى مصالحها المحددة بِقُطْريَّتِها ما وقع بينهم من تباين إزاء النظام في سورية، وهي قضية مهمة, لا ثانوية، ومع ذلك اختلف الموقف، جدا، بين إخوان سورية، وإخوان فلسطين، وهم laquo;حماسraquo; ففي حين تعتبره الأولى عدوا لدودا، ونظاما دمويا دكتاتوريا، تتوجب إزالته، رأته الثانيةُ داعما للمقاومة، وجديرا بالوفاء، وكان السبب اختلاف مصلحة كلٍّ منهما، ولعلهما يتفهمانه!
فليس التعاون بين أمريكا وإخوان مصر بمستغرب، وفي عقليتهم فكرةُ التدرُّج، المحددة بالواقع المتاح.
o[email protected].