النظام الذي يصل إلى هذه الدرجة من الانفعال المؤسي، حين لا يقتصر أذاه، وقمعُه الوحشيُّ، على من يدعي أنهم مندسون، وجماعاتٌ مسلحة؛ ليطال المثقفين والفنانين، وقد خرجوا في وضح دمشق، هذا النظام لن تطول أيامُه، ولعله، علم، أم لم يعلم، يستشعر ذلك، كمَنْ دنتْ منيَّتُه.
وتلك إشارة، وتنسحب فائدتُها على سائر تصرفاته، وتُبطل أكاذيبَه في تشويه التظاهرات السلمية التي بلغ بها الظَّرْفُ حدا جعل المتظاهرين يلثغون بها: laquo;ثلمية ثلمية يا بثّار!raquo; لعلهم يُفصحون عن أنفسهم، بعد أن لم ينفع النُّطقُ الفصيح!
لكنَّ لصُنَّاع القرار العالمي منطقا آخر, يقوم ndash; كما هو معلوم- على القياس الدقيق والدائم للتطورات، والنظر في عواقب المواقف على laquo;الاستقرارraquo; الذي يعني الحفاظ على المصالح الدولية، وحفظ التوازنات الإقليمية، مع الأخذ بعين الاعتبار الطاقة الشعبية السورية، هل هي قادرة؟ أو بالأحرى مُوجِبة لتغييب نظام الأسد؟ وليس أقل من ذلك الاطمئنان إلى قيادة هذه المظاهرات والثورة، والمحركين الفعليين، والميدانيين، ومدى تمثيل أقطاب المعارضة لهم.
المواقف الدولية والحسم:
صدر الموقف الأمريكي الذي طال انتظارُه، أخير: (الأسد فقد شرعيته، عند شعبه) لكن ما إنْ كان هذا الموقف، حتى بادرت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، إلى التخفيف، قليلا من حسمه، ونهائيته، بالقول: laquo;إن الوضع في سورية لا يزال مفتوحاraquo;.
وشككت بقدرات المعارضة: laquo; لا اعتقد أننا نعلم كيف ستتمكن المعارضة في سورية من قيادة تحركها، وما هي مجالات التحرك لديهاraquo;.
ولم يكن مؤتمر المعارضة الذي انعقد في اسطنبول قبل أيام مطمئنا، من حيث قوة التماسك، بين مكونات المعارضة، والاختلاف على التمثيل، وحتى إن خلافات جوهرية نشأت حول طابع سورية، من حيث انتماؤها العربي، أو تعدد الانتماء، بما يشرك الأكراد إشراكا مهما، كما العرب. ويجعل سورية دولة تشاركية عربية كردية، حسب الموقف الكردي.
ولم تكن المواقف الدولية الأخرى أكثر حسما من الموقف الأمريكي، فأحدث تصريح لوزير الخارجية البريطاني- يُعدُّ من أكثر المتشددين ضد نظام الأسد- قال بعد اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوربي: laquo;الموقف ما زال بالغ الخطورة. يجب على الرئيس الأسد، إما أن يجري إصلاحات، وإما يتنحى.raquo;.
وهذا يُبقى الباب مفتوحا، أمام نظام الأسد، حتى بعد كل ما كان منه، وبعد كل الذي قيل عنه، دوليا.
المواقف الإقليمية والعربية:
وفي المواقف الإقليمية أيضا اتساق مع هذا التوجه، إذ قال وزير الخارجية التركي، أحمد داود أغلو، بعد مؤتمر إسطنبول:laquo;قال الأسد إنه سيشكل جماعات متعددة الأحزاب في البرلمان.. آمل أن يكون لدى سوريا أحزاب معارضة، وأن يكون بسورية أحزاب معارضة ترفع صوتهاraquo;. وأبقى على تخيير النظام بين تنفيذ إصلاحات، أو مواجهة الإطاحة به، على أيدي قوى ديمقراطية.
وأما موقف الجامعة العربية فغنيٌّ عن التوضيح؛ إذ كان متقدما على المواقف الدولية، والتركية، حين مال أكثر لصالح بشار الأسد، إذ نفى الأمين العام، نبيل العربي إمكانية أن يتم الضغط على الجامعة؛ لإصدار قرار مشابه ضد سوريا، مشيرا إلى أهمية سوريا لاستقرار المنطقة، رافضا أي تشهير يطالها، ويطال رموزها، مفترقا بذلك عن الموقف الأمريكي المعلن، إذ قال: laquo;لا يملك أحد أن يقضي بأن رئيس دولة فقد شرعيته، هذا أمر يقرره الشعبraquo;.
وهو، بالمناسبة، لا يبتعد عن الموقف الأمريكي الحقيقي الذي صرحت به كلينتون، حين قالت، بعد أن أعلنت افتقاد الأسد للشرعية:laquo; إنه لا يمكن التأثير على الوضع في سوريا من الخارج. وقالت: laquo;لا أحد منا لديه تأثير حقيقي باستثناء أن نقول ما نعتقده، ونشجع على التغيير الذي نأملهraquo;.
الإصلاح لا زال خيارا دوليا:
قد تسمح المواقف السابقة، بالاستناد إلى خطورة المغامرة بغياب نظام الأسد الذي لا يزال يتوفر على بنية أمنية متماسكة، داخليا، وعلى تعاون دولي فعلي، واستقرار, مع إسرائيل، قد تسمح بترجيح الظن القائل بأن الدول الغربية، بما فيها أمريكا، والاتحاد الأوروبي لا تزال تفضل الإصلاح الديمقراطي على الإطاحة الكاملة بالنظام في سورية.
وأما المواقف التي أعلنتها عن فقدان الأسد للشرعية، فهي إما استجابة للضغوط، وإما ضغوط تمارسها على الأسد؛ للانخراط الجدي في قيادة سورية إلى التحول الديمقراطي والإصلاح. فهو فقد شرعيته بهذا النظام القمعي غير الديمقراطي.
أو أن هذا الموقف، حين نفهمه مع المواقف المبقية على خيار الإصلاح، يعبِّر عن حيْرة صانع القرار الأمريكي، والأوروبي، واستشعاره المخاطر والصعاب التي تقف في طريق مشهد جديد غير مضمون. ولا سيما بعد الاستعصاء الذي منيت به الجهود الدولية في ليبيا، في الوقت الذي لا يليق أخلاقيا، ولا حتى سياسيا، إذا تغلبت الثورة أن تبقى أمريكا وأوربا في المكان الخطأ.
بالطبع ليس بالإمكان أن تُقبل الإصلاحات الشكلية، أو الجزئية، كما يريد النظام، ولكنها، حتى تُقبل ينبغي أن تكون جذرية، تفضي، فعلا، إلى تحول سورية إلى دولة ديمقراطية، تتعدد فيها الأحزاب، وتقوم على الشراكة في الحكم، وإجراء انتخابات رئاسية، وبرلمانية نزيهة، وغير ذلك، مما يشعر المواطن العادي، والقوى السياسية السورية بتغير حقيقي.
وتتولى تركيا رعاية هذه الرؤية، وإقناع الأسد بالتحول إليها، جديا.
صعوبات خيار الإصلاح:
لكن أمام ذلك صعوبات، تتعلق بالنظام نفسه، والعناصر الفاعلة فيه، وتركيبته الأمنية، وعقليته التي لا يسهل عليها التسليم بخسارة الاستفراد في الحكم والدولة، فضلا عن أرباب المصالح الذين يتخوفون على امتيازاتهم، ونفوذهم الذي تتشابك في السياسية بالمال.
وثمة عامل إقليمي يعوق التحول الديمقراطي، يمثله إيران، وحزب الله؛ للأسباب المعروفة، والتحالف الوثيق، ولن يبقى على حاله بعد دخول مكونات سورية جديدة، من أوضح ما يجمعها، معاداة إيران، وحزب الله؛ لما قدماه من دعم أعمى لنظام لم يقصر في قمعهم بكل الوحشية التي أتاحتها له، إيران وحزب الله، بالدعم السياسي، وهو الأهم، والمالي، وحتى المباشر, كما يردد مواطنون سوريون، وغيرهم؛ فإيران، وحلفاؤها أكثر من يدرك مخاطر غياب استفراد نظام الأسد بسورية، وبروز قوى سياسية سورية لها مواقف مختلفة، أصلا، حتى قبل الانحياز الإيراني، وإلقائه كل بيضه في سلة الأسد.
وأما العامل الأقوى الذي يعيق هذا الخيار الإصلاحي فهو موقف الجماهير السورية الثائرة، وممثلوها، والمعارضة الذين لا يريدون أن تبقى من هذا النظام باقية. بعد أن قطع كلَّ الخيوط بينه وبينهم، وجعل الحوار معه، أو الالتقاء به، أمرا تجاوزته الدماء والأحداث.
والواقع أن أمريكا، بالذات، لن تتسرع، لا في استخدام القوة للإطاحة بنظام الأسد، ولا هي حتى ستُلقي بكلِّ ثقلها السياسي في دعم المعارضة التي لا تستوثق بعد من قدرتها، أو تماسكها، أو توجهاتها السياسية. فواشنطن تنتظر، وتحفظ لنفسها مكانا في الحالتين.
[email protected].
التعليقات