في مصر مطالباتٌ شعبية وحزبية بمحاكمة الرئيس السابق حسني مبارك، ونجله جمال، وكافة رموز نظامه، وفي اليمن مطالباتٌ بمحاكمة الرئيس علي عبد الله صالح، وفي ليبيا، القذافي، وقد يمتد هذا النطاق. إنها مستلزمات الثورات، ودلائل استرداد القرار, ولكن هل نضجنا لتقبل ذلك, وتنفيذه؟

من الصعب أن نتناول هذا الأمر, ولا نتذكر, ما حصل لرئيس الدولة، السابق، في إسرائيل موشيه كتساف الذي حُوكم, الشهر الماضي، وأُدين، بالاعتداء الجنسي, والاغتصاب، وقضت المحكمة المركزية الإسرائيلية بسجنه فعليا سبع سنوات, مع الشغل، وعامين, مع إيقاف التنفيذ، وعلَّق رئيس المحكمة جورجي كارا في بداية الجلسة، بالقول:laquo; إنه لا يوجد أحد فوق المحكمة والقانونraquo;.
وفي بريطانيا تعهد وزير الخارجية ويليام هيغ بتعيين شخصية مستقلة تُناط بها مهمة الإشراف على الإفراج عن كافة الأدلََّة التي يمكن أن تشكِّل تجريما محتملا لأسلافه البريطانيين؛ جرّاء ما ارتكبوه من أعمال في تاريخ الإمبراطورية البريطانية.
وتنقل صحيفة التايمزعن الوزير البريطاني قوله: laquo;لقد تأخَّرنا بتطبيق عملية الشفافية هذه، فهي أمر أساسي لدعم سلطتنا الأخلاقية كأمَّة، وهي تصبُّ في مصلحة بلدنا على المدى البعيد.raquo;
ومن تلك الأسرار التي سيُكشف عنها في إطار عملية الشفافية تلك، الملفات السرية التي تكشف الأدلة المتعلقة بالانتهاكات التي كانت قد ارتُكبت في مستعمرات بريطانية سابقة؛ فإذا كانت دولة مهمة كبريطانيا تحرص, على الظهور بمظهر العدالة، حتى حيال شعوب خضعت لاستعمارها؛ فكيف يُستخفُّ بمطلب العدالة في أمر يتعلق بشعب في بلده، وممن تولوا حكمه، باسمه؟!

لكن في مجتمعاتنا العربية التي اعتادت laquo;تقديس الحاكمraquo; تَهيُّبٌ من محاكمة الرؤساء، فهم عند البعض يَلْتَبسون بالأوطان، أو يتلبَّسون بها، وتصبح مكانتُهم، من مكانة البلد والشعب. وهذا صحيح، عندما يكون الحاكم تعبيرا حقيقيا عن إرادة الشعب، وقَيِّما، على مصالحه، ومقدراته، مراعيا لكرامته، وحقوقه الطبيعية.
لكن الرئيس الذي يقتل شعبه، بمقدرات هذا الشعب، وسلاحه، ومن ماله المنهوب، و(الرئيس) الذي يزوِّر إرادة شعبه، ويفتئت على حقه في اختيار حاكمه، لا يملك أية حصانة من أي نوع.
و(القائد) الذي يطارد أبناء شعبه من المعارضة، ويصفهم بالكلاب الضالة، يستحق محاكمة عادلة, ولا يليق أخلاقيا التستر عليه، أو منحه اللجوء, والحماية، أو مساومة حق الشعب معه، بالمصالح، كما يُخشى أن يكون موقف بريطانيا من الشخصية الأكثر دموية وإجراما في سلطة القذافي, موسى كوسا الذي لم ينفِ جرائمه بحق المعارضين في الخارج، بل إنه ظل مصرا عليها, ومتبجحا بها، وفي مقابلة له مع صحيفة laquo;التايمزraquo; البريطانية عام 1980م، توعد بقتل المنشقين الليبيين على الأرض البريطانية قائلا للصحيفة: laquo;اللجان الثورية قررت قتل شخصين آخرين في المملكة المتحدة.. أنا أقر هذاraquo;.
وكان يحظى بكامل الدعم والتأييد العلني من قائده القذافي؛ فليس من عادة مثل هذا النوع من (المسئولين) ومثل هذا النوع من الأعمال أن تتم دون تكليف، أو رعاية من رأس النظام.


العدالة قوة للمجتمعات:
ومن بدهيات القوانين المتحضرة أن الناس متساوون, أمام القانون والقضاء, حكاما ومحكومين, ولا تخفى نتائج إحقاق العدالة الإيجابية في التعمير وقوة الأمم وازدهارها... وارتداع المجرمين, والمستهترين بحقوق الناس.

ولا تنفصل الحرية عن العدالة, حتى إن رفاعة الطهطاوي, عرَّف الحرية liberty)) التي رآها في فرنسا في كتابه laquo;تلخيص الإبريزraquo; بأنها laquo;العدل والإنصافraquo;. كما لا يقتصر مفهوم العدالة على الصفة القانونية, ولكنه يتسع ليكون فعلا، إيجابيا, يُعطِي, ولا يقتصر على المنع. فالعدالة حالة دائمية تكفلها القوانين المنبثقة من وعي الناس، بحقوقها، وهي تشمل منح الناس حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وغيرها.

وفي حالة مصر تدلُّ المحاكمة العادلة على تحققٍ لمعنى مهم من معاني الثورة, وهو طيُّ صفحة من تاريخ مصر، تخللها الكثير من الظلم؛ الذي ينتظر ضحاياه إنصافا, وقصاصا عادلا.

وفي مصر خرج الملايين يطالبون بمحاكمة الرئيس السابق وحاشيته؛ وهذا العدد الكبير لا بد أن يكون له تأثيره؛ واعتباره؛ لأنه طالما استدل البعض بسكوت الشعب المصري عن (رئيسه) على رضاه عنه، وقبوله بمؤسسته الحاكمة، علما بأن قانون الطوارىء والقمع والترويع الأمني مشتهر عن نظام مبارك, وكذلك انتخاباته التي كان يشوبها الكثير من التزوير.

فهذا الضغط الشعبي لا يَسمح بتجاهله، ومثلما يُحاكم وزراء في نظام مبارك، فمن الأَوْلى أن يحاكم مَنْ كان له المسئولية العليا عنهم, وعن الدولة, والمؤسسات المتعددة فيها.

ومن بَدَهيات المحاكمة النظر في الأدلة والقرائن والمعطيات, ومراعاة الظروف التي أحاطت بتلك الجرائم، أو التقصير, أو التغاضي عن مرتكبيها, وحمايتهم.
ومجرد وقوف الرئيس السابق للمساءلة القانونية والمحاكمة ليس فيه أية قسوة, أو مجانبة للياقة، فثمة اعتبارات أخرى معنوية للبلد، وحقوقية للمواطنين, تستحق أن تُستوفى.
[email protected].