بالرغم من التدخل الدولي؛ للحد من قدرات القذافي العسكرية, وبالرغم من الحظر الجوي, والدعم السياسي للمعارضين لحكمه؛ فإن الزعيم الليبي ما يزال قادرا على المواجهة, بل، إلحاق الضرر بالمعارضة, واسترداد المدن المهمة. وتكتنف مهمة الدول المشاركة في تنفيذ قرار مجلس الأمن صعوبات, أهمها التداخل بين أهداف القذافي وتحصيناته، والمدنيين.

ويعزز القذافي قدراته بمجموعات مرتزقة مقاتلة, أو مشرفة على العمليات القتالية, من إفريقيا, وروسيا البيضاء، وثمة أخبار متضافرة عن دور إسرائيلي في تجنيد مرتزقة أفارقة, وعن طوابير منهم كانت تقف أمام السفارة الإسرائيلية، لدى السنغال، بهدف الفوز بعقد عمل للقتال في ليبيا. ونشر موقع laquo;يديعوت أحرونوتraquo; أواسط مارس الماضي أن ليبيا حسنت علاقاتها مع إسرائيل في الآونة الأخيرة، وأن وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان أقام شبكة علاقات مميزة مع النظام، ومدح القذافي، عدة مرات، في عدة جلسات لحكومته، معتبرا إياه زعيما ذا مصداقية.

التأييد الداخلي:
ولكن السبب الأهم، على ما يبدو, ليس في المرتزقة الذين يستعين بهم القذافي, ولكنه في الشعب الليبي نفسه, أو في قوى لا بأس بها منه, وقد حاول المجلس الوطني الليبي أن يستميل قسما من الأهالي, في بعض مناطق الغرب، والمدن القريبة منه, أو يحيدهم, ولكن يبدو أن تلك الجهود لم تصل مرحلة الحسم.
وأوضح محمد بن غلبون رئيس الاتحاد الدستوري الليبي المناوئ للقذافي في laquo;حوار له مع الشرق الأوسطraquo; نشر الأحد 17 أبريل الجاري جانبا من الوضع الداخلي, وبيَّن أن قبائل مهمة لا تزال على ولائها للقذافي، وقال:laquo;إن مصراتة التي تدفع ثمنا باهظا لثورتها؛ من أجل الحرية والكرامة لم تجد النجدة من القبائل والمدن التي حولها، وبعضها لا يبعد عنها سوى عشرات الكيلومترات. موضحا أنه حول مصراتة، وبالقرب منها ورفلّة، وترهونة، والمقارحة، والفرجان، والحسون، وغيرها كثير، وكلها قبائل كثيرة العدد، ومشهود لها بالنخوة والشجاعة، ولها تاريخها وتجاربها القتالية، ضد الاستعمار الإيطالي، ومن قبله ضد الدولة العثمانيةraquo;. ورأى أنه laquo;لو تحركت هذه القبائل أو بعضها مثلما فعلت مصراتة والزنتان والزاوية لما صمد القذافي في الغرب أسبوعا واحدا، ولكن يبدو واضحا أن هذه القبائل قد التزمت بعهود الولاء.

الموقف الأمريكي الحذر:
ولأمريكا التي يتسم موقفها بالحذر أثر مهم في تأخير الحسم, ويمكن أن يعود هذا إلى سببين، الأول: خوفُها من التورط، والخسائر العسكرية, أو استعادة صورة الدولة الاستعمارية إلى الذاكرة العربية التي تحتل بلدا عربيا آخر, بعد العراق، وفي هذا الصدد قال مسؤول رفيع المستوى في إدارة أوباما لصحيفة laquo;نيويورك تايمزraquo;:laquo;استخلصنا بضعة دروس من العراق، من أهمها أن على الليبيين تحمل مسؤولية تغيير النظام وليس نحنraquo;.

وهذا يؤكد مسألة عامة, وهي الحاجة إلى النضج الداخلي, قبل أية عوامل أخرى؛ بأن يبلغ الاتفاق على خطر النظام مبلغ الإجماع, أو نسبة غالبة تمكِّن من خلعه, ولو تشبثت به, لفترة أجهزته الأمنية... ولكن استمرار الزخم, وتوسعه، بحكم العملية المتصاعدة من الاحتجاج، وتنامي الجرأة, وتهشُّم حاجز الخوف, من شأن ذلك, وفي ظل المناخ السائد عالميا, وعربيا, أن يزعزع النظام, وأن ينتقص من فاعلية القوى الأمنية, أو يحمل بعض المتنفذين منها, على الانحياز إلى مطالب الشعب, أو أكثريته, العادلة, إما لعدالة مطالبهم, وإما لانكشاف الوجه البشع والدموي للنظام القمعي، وإما لمنافع يرجوها أولئك المنشقون، بالنجاة من المركب الغارق.

إن انحياز فئات إلى منافع ضيقة, أو إلى عهود غير مقدسة, يكشف عن خلل في بنية المجتمعات العربية, وليس خاصا بالعرب, يتمثل في تقديم المصالح الخاصة على وحدة البلد, ومستقبله الحقيقي, وشكل الحياة المرجوة فيه.

وأما السبب الثاني للتباطؤ الأمريكي فقد يعود إلى رغبتها في تعرُّفٍ أكبر على المعارضة الليبية, وتوجهاتها الفكرية والسياسية.

تواضع إمكانيات المعارضين:
ولا يخفى أن من الأسباب الميدانية التي تبطىء الحسم تواضع قدرات المعارضين, وقلة خبرات الكثيرين منهم في القتال, بالرغم من توفرهم على مسلحين بمدافع رشاشة ثقيلة، وقاذفات صاروخية، وأسلحة مضادة للدروع، وأخرى مضادة للطائرات. ولكن يبقى التفوق لقوات القذافي النظامية، وهو الأمر الذي لا تتصف به قوات المعارضة بنفس الدرجة, أو على نفس النطاق، فبعضهم بسيط الأسلحة, ومنهم من يستخدم بنادق صيد، وبعضهم محدود الخبرة العسكرية, وقد حملوا السلاح، بعد الثورة. وكانوا من قبل مواطنين عاديين.

دعم بعض الدول للقذافي:
وبالرغم من المبالغة التي يضفيها القذافي على نفسه بأنه زعيم أممي, وملك ملوك إفريقيا فإن له, فعلا, علاقات بناها مع بعض دول العالم، وله نفوذ حقيقي في القارة الإفريقية. فعلى المستوى العالمي ظهر الموقف الفنزويلي الداعم للقذافي حيث عرض الرئيس هوجو تشافيز خطة سلام لحل الأزمة، وندد بأي تدخل عسكري أجنبي، معتبرا إياه quot;كارثةquot;.

ويتمتع القذافي بنفوذ حقيقي في القارة الإفريقية يمكنه أن يتخذ من عدد من تلك الدول ذخرا له, ومددا، وفي هذا السياق قالت صحيفة laquo;ليبيا اليومraquo; (أوائل مارس الماضي )عبر موقعها الإلكتروني:laquo; إن الحكومة التشادية برئاسة إدريس ديبي تقوم بالإسناد العسكري للعقيد القذافي، مشيرة إلى أنه تم إيفاد الجنرال عثمان بحر اتنو ابن عم الرئيس التشادي لقيادة حملة عسكرية مخصصة لهذا الشأنraquo;.

ولا يعدم النظام الليبي دعما عربيا, من دول مجاورة, مثل الجزائر, التي تتهمها المعارضة الليبية برعاية مرتزقة منها يقاتلون إلى جانب القذافي, وأخرى تخشى أن يحل بها ما قد يحل بليبيا مثل سوريا.

القسوة البالغة التي يواجه بها القذافي خصومه:
يضاف إلى الأسباب التي تُصعِّب من الإطاحة بالقذافي الآلياتُ البالغة القسوة، وغير المنضبطة بأية ضوابط التي يعتمدها القذافي وقواته في مواجهة مناوئيه، وكان مسؤول في المجلس الوطني قد قال لـlaquo;الشرق الأوسطraquo; :laquo; إن الثوار في مدينة بنغازي نجحوا في تفكيك شبكة سرية كانت تستهدف القيام بعمليات إجرامية داخل المدينة، مشيرا إلى أنه خلال التحقيق، مع ضابط تابع للقذافي معتقل حديثا قال: إن أوامرنا كانت أبعد من قتل المتظاهرين، بل بتعقبهم وإعدامهم في منازلهم. كما أقر بأن الكتائب الأمنية التابعة للقذافي قتلت الجرحى من الثوار بعد أن أخذتهم إلى مقر إحدى الكتائب، ثم أحرقوهم، ودفنوهم في مكان غير معروفraquo;.

خلافات laquo;التحالف الدوليraquo;:
وعلى الصعيد الخارجي قد يكون في الخلافات بين دول الناتو, وفي الرغبة الأمريكية التي تريد ضمانات أوضح عن طبيعة القوى التي تشكل المجلس الوطني, وتوجهاتها أثر في التباطؤ لبذل جهود أكبر لحسم الوضع في ليبيا. وقد برزت خلافات بين دول الناتو المشتركة في تنفيذ قرار مجلس الأمن, ووجهت انتقادات أمريكية وبريطانية لـlaquo;التسرعraquo; الفرنسي. ثم ظهرت بريطانيا وفرنسا أكثر حماسة لمزيد من استخدام القوة ضد قوات القذافي من الولايات المتحدة.
وفي الاجتماع الأخير لمجموعة الاتصال في الدوحة، دعا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون المجتمع الدولي إلى laquo;التكلم بصوت واحدraquo; إزاء الأزمة في ليبيا، مشيرا إلى أن 3.6 مليون شخص في هذا البلد قد يحتاجون إلى دعم إنساني.

الخلافات بين صفوف المعارضة:
ولكن، هل لطبيعة المعارضة, أو اختلافاتها أثر؟ لم نلحظ ذلك, ربما يكون لهذا تجليات على الوضع الميداني, وهو معيق, ولا ريب. ولوكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة تقديرات عن الثوار تستبعد قرب تمكنها من الحسم، قريبا؛ بسبب ما تعرفه عن قواتهم ضعف التنظيم، وتواضع القدرات العسكرية.
لكن لم تطفُ على السطح خلافات سياسية, أو فكرية تعوق التحركات, فقد صدرت منهم مطالبات موحدة من مجموعة الاتصال التي عقدت اجتماعها الأخير في قطر... وأصرت على مطلب رحيل القذافي, كما تجلى موقفهم السياسي الموحد في القبول بمعظم أجزاء المبادرة التركية التي طرحتها أنقرة على دول مجموعة الاتصال في الدوحة.

كيف يُصنع للقذافي مخرج؟
ومن آخر ما يمكن أن يؤخر الإطاحة بالقذافي مسألة المكان الذي من الممكن أن يلجأ إليه؛ لأن أكثر من نصف بلدان القارة الإفريقية لم توقع على معاهدة روما التي ترغم البلدان على تسليم أي شخص تدينه المحكمة الجنائية الدولية. فهذه المسألة إجرائية, وهي آخر ما يتحدث عنه, أو يحسب له.

وأما محاكمة القذافي فلا يبدو أن المعارضة مصرة عليها, بصفة مبدئية؛ لأنها طرحت مبادرات لتسلم الحكم, ولم تشترط المحاكمة, وقد يكون الأهم لها, في ظل توفر القذافي على قوة لا بأس بها, تعوق التقدم, أن تزيحه عن الحكم, في المقام الأول.
[email protected].