- خطفَ رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، أنظار بعض الفلسطينيين، والعرب، في كلمته في الجلسة الافتتاحية لمنتدى سفراء فلسطين، في مدينة اسطنبول، وألهب مشاعر السفراء، حين قال: laquo;نصف قلبي مكة، والنصف الآخر المدينة، والقدس يغطي عليها بمثابة الستارة.raquo;.
- وأكد آخرون علوَّ قامته، على قامات حكام العرب. بالطبع لسنا في صدد تبرئة الحكام العرب من التقصير في تحمل مسئولياتهم، أو ملء الفراغ في الزعامة, ولكننا سنتساءل عن زعامة أردوغان، وهل يستحقها؟
- وقبل الشروع في الفكرة الأساسية لهذا المقال، وهي كيفية النظر إلى أردوغان، يمكن لنا التذكير بأن مواقفه الأساسية في النزاع مع الاحتلال الإسرائيلي التي أكدها في خطابه، متوافقة مع المواقف الدولية، والأمريكية تحديدا، والعربية الرسمية، سواء الموقف من القدس الشرقية التي لا تعترف واشنطن بضمها إلى إسرائيل، وقد ألمح أردوغان إلى فكرة تدويل القدس الشرقية، أو الأماكن المقدسة فيها، حين أشار إلى أنه laquo;في حل وضع القدس، فإنه يجب الحفاظ على الإرث الثقافي المتعدد، فالقدس على مدار التاريخ كانت لمختلف الأديان والأعراق مدينة للسلامraquo;.
- وكذلك في عدم الاعتراف بشرعية المستوطنات المقامة في الضفة الغربية والقدس، وفي أحقية الفلسطينيين في دولة لهم في حدود الرابع من حزيران.
وفي رفض استمرار هذا الوضع، والإصرار على أهمية إنهائه، لتحقيق الاستقرار والعدالة.
واضح أن المكانة المضخَّمة التي يشغلها أردوغان في النفسية العربية ناتجة، في معظمها، عن افتقاد العرب، إلى زعامة؛ فاتخذ قسم منهم، هذا القائد التركي زعيما؛ تعويضا عن هذا الافتقاد.
ولكن السؤال: كيف نجح أردوغان في اجتذاب العرب؟ بالرغم من كونه لا يبتعد كثيرا عن السياسة العربية، والدولية، في مواقفه من فلسطين التي لا تزال مبعث إثارة مكثفة في الوجدان العربي.
ليس مستغربا أن يحوز أردوغان رضا الكثير من العرب، والفلسطينيين؛ لأنهم خفَّضوا سقف توقعاتهم، وتطلعاتهم، بالمقارنة مع حال القيادة العربية، بصفة عامة. وكانت مواقف أردوغان العاطفية، في أغلبها كافية لإقامة هذا الفرق عن الحكام العرب؛ فقد تجرأ أردوغان على تحدي إسرائيل، وتوبيخها، كما في مؤتمر دافوس. وحاولت السفينة التركية، مرمرا، كسر الحصار عن غزة،2010م، وقتلَ الجنود الإسرائيليون تسعة من الأتراك الذين كانوا على متنها، ثم أصرَّ أردوغان، والحكومة التركية على عدم العودة بعلاقاتهم مع إسرائيل إلى مجراها الطبيعي، إلا إذا قدمت حكومة الأخيرة اعتذارا رسميا، لتركيا، وتعويضات لأهالي الضحايا، ورفع الحصار الذي تضربه على قطاع غزة.
- ولكنَّ سؤالا آخر ينهض: وهو لماذا تغاضى أولئك المعجبون بأردوغان، أو المنبهرون به، عن سائر مواقف الحكومة التركية، وأردوغان، وعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وحتى علاقات بلاده الباقية مع إسرائيل؟!
كيف أسقط هؤلاء المخطوفةُ أنظارُهم بأردوغان، تلك العناصر الباقية في الصورة؟!
من الواضح أن العناصر العاطفية كانت هي الأَفْعل في الصورة، وفي التأثير، على الناظرين، وفي تكوين خبرتهم المعرفية السابقة، أو الطاغية.
فهم لا ينظرون إلى الصورة، مُحلَّلةً إلى عناصرها، ولا يقيِّمون حجم كل عنصر من تلك العناصر التي تأتلف في تكوين الصورة، وإنما يرونها وَفْقا لنظرية laquo;الجشطلتraquo; التي ترى الشيء، دون أن تُبقي على عناصره منفصلة؛ فيصبح شيئا آخر، أو شيئا يزيد عن حاصل جميع أجزائه.

- إن المعجبين بأردوغان زعيما، لا يرون عنصر تركيا في حلف الناتو، والتزاماتها نحو هذا الحلف، بما فيها المشاركة في الحرب على أفغانستان، (ومهما قيل عن تميُّز مهام القوات التركية، فإنها تبقى تصبُّ في الهدف العام لحلف الناتو) مع أن المعجبين بأردوغان قد يكونون من ذوي المرجعيات الإسلامية التي ترى في العمليات التي ينفذها الناتو في أفغانستان غزوا واحتلالا!

- فلو كان المعجبون بأردوغان راضين عن نهجه السياسي، وعن مواقفه كلها لما كان في الأمر أية غرابة، ولا خروجا عن المنطق، ولكنك لو سألتهم عن مواقفه، دون ربطها به لقالوا فيها ما لم يقله مالكٌ في الخمر.
- فلو سألتهم ما رأيكم في التعاون مع أمريكا، والانخراط العسكري والسياسي في مشاريعها؟ لقالوا إنها عمالة.
- ولو سألتهم ما رأيكم في إقامة علاقات سلام مع إسرائيل، وتعاون عسكري معها؟ لقالوا إنها طعنةٌ في الظهر للفلسطينيين، (وفي هذه المرحلة بالذات) التي تتنكر فيها دولة الاحتلال لحقوقهم، وتبتلع أراضيهم الباقية، كما تبتلع أحلامَهم في التحرر والاستقلال.
- ولو سألتهم ما رأيكم في الصداقة مع نظام الأسد الذي يقتل شعبه، ومحاولات إصلاحه، واستبقائه، حتى آخر رمق؟ لقالوا إنه موقف غير أخلاقي.
- بالطبع تركيا الحريصة على دور إقليمي فاعل، وتعاون مع دول المنطقة، وعلاقات طيبة مع شعوبها في منتهى الذكاء والحساسية لتلك الأمور السابقة؛ فهي تقريبا تغلفها بخطاب لا يخلو من حكمة، ولا يتجاهل الشعوب، ومشاعرها، كما يظهر في قضيتي فلسطين، حيث الدور التركي المساند سياسيا، والحريص على كسر الحصار عن غزة. وفي الحالة السورية، حيث ظل أردوغان يحاول إمساك العصا من الوسط، يميل مع مطالب الشعب المحقة، ويندد بالقتل، وجرائم النظام الوحشية، دون أن يقطع مع الدولة، ويحاول إنقاذها بالمبادرات الإصلاحية الديمقراطية.

- وحتى في أفغانستان تحاول تركيا تجنب التورط في نشاطات عسكرية، أو الاعتداء على الحرمات، واستفزاز مشاعر الأفغان.
_ ومنهم من يعجب بزعامة أردوغان، بالرغم من كل تلك العناصر غير المنسجمة مع الصورة المتخيَّلة للزعيم المرتجى؛ بسبب منطق تبريري، يقوم على أن أردوغان غير قادر، بعد، على إحداث التغيير الذي يريده في سياسة تركيا الخارجية والداخلية.
على الرغم من كون تركيا دولة ذات سيادة، ويمكنها مقاومة الضغوط، وهي في وضع اقتصادي جيد، ويحظى أردوغان بالتفاف شعبي ملحوظ!
وسبق لتركيا أن اتخذت مواقف غير متوافقة مع المصالح الأمريكية، في ظرف شديد الحساسية، عندما رفضت حكومة العدالة والتنمية دخول القوات الأمريكية إلى العراق عبر أراضيها عام 2003م. ولم يتسبب لها ذلك بأضرار كبيرة.
ويكاد ينطبق على أردوغان المثل الشعبي القائل:laquo; إنْ طِلِع صِيتَك حُطْ راسك ونامraquo; فلا يضر أردوغان كلُّ المواقف التي تراعي مصلحة تركيا في المقام الأول، وأحيانا لو تعارضت مع الموقف الأخلاقي، كما كان تردده إزاء القذافي، وهو يشن حربا على شعبه، قبل أن يحسم أردوغان أمره، ويدعو إلى رحيل القذافي.
وكذلك، كما كان موقفه من بشار الأسد، حين أعلن أنه صديقه، وأن الإصلاح هو الحل، وذلك حرصا على مصالح تركيا في سورية والمنطقة, من خلال بوابتها، قبل أن يرفع من نبرة انتقاداته ضد نظام الأسد، بعد أن سقط بدرجة كبيرة في أعين السوريين؛ فآثرت تركيا رضا الشعب الأبقى.
فالمعجبون بأردوغان لا يعيرون لهذه التغيرات والتذبذبات أهمية؛ لأن المعرفة الراسخة التي عبأتها تجاربُهم السابقة عنه تختلط مع المعطيات الحسية، أو تطغى عليها.
قريبا مما يحدث حين يبتعد- وفقا لعلماء نفس- الجسمُ المرئي، في حدود 50 مترا، ومع ذلك نرى حجمه ثابتا؛ لأننا نعرف أن حجمه الحقيقي لا يتغير؛ فتقوم معرفتُنا بتصحيح رؤيتنا؛ فنظل نرى حجم الجسم ثابتا.
مع الفارق في حالة العرب مع أردوغان في المسافة، ربما، وفي نوعية المواقف. وذلك لأن بعضهم يرونه زعيما مخلصا، وهو في الواقع السياسي( بغض النظر عن مشاعره الشخصية) قائد تركي يسعى لدور إقليمي فاعل

[email protected].