منذ أن قتلَ قابيلُ هابيل، والعلاقة الإنسانية محكومةٌ بالصراع، بل، والعداوة؛ فلا نطمح إلى إنهائها، ولكنا نأمل أن تبقى للصراعات أخلاق، وللعداوة حدٌ لا ينزلق بالمتعادين إلى حالات تنأى عنها وحوشُ الغاب.
كان الفيلسوف الألماني(كانت) قد تناول هذه الفكرة في: laquo;كتابه مشروع للسلام الدائمraquo; حاول أن يرسي مبادىء تحكم العلاقات بين الدول، وتحاول الحدَّ من الحروب والنزاعات، وكان لهذا الكتاب تأثير في نشوء laquo;عصبة الأممraquo;. وتضمَّن كتابُه مادةً تنظِّم حالة الحرب، وتحاول كبح جماحها، قال فيها:laquo; لا يُسمح لأي دولة في حرب مع أخرى، أن ترتكب أعمالا عدائية ـ كالقتل والتسميم ونقض شروط التسليم، والتحريض على الخيانة ـ قد يكون من شأنها عند عودة السلم، امتناع الثقة المتبادلة بين الدولتينraquo;. فلا بد من خطوط حمر أخلاقية، حتى للحرب؛ حتى يمكن، في لحظة معينة، العودة إلى السِّلْم.
ولكن laquo;عصبة الأممraquo; وبعدها laquo;هيئة الأمم المتحدةraquo; لم تنجح في ضبط حالات الحروب والنزاعات، ولا في تحقيق الحد المعقول من العدالة. وظلت تلك المبادىء أسيرة المنافع والمصالح تُفَعَّل، حين تحققها، وتُهمَل، حين تعارضها، أو حتى لا تحققها.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بحجم الخسائر البشرية التي خلفتها حروبٌ عالمية وإقليمية؛ فلماذا لا يزال اللجوء إلى العدوان والعنف طريقا مفضلا لدى عديد من الدول؛ لتحقيق أهداف خارجية، وداخلية؛ حتى بلغ الأمر بدولة كالولايات المتحدة أن تعلن حربا على العراق، دون توفر شرعية قانونية، أو أخلاقية لهذه الحرب، ولسنا هنا في معرض بيان لا شرعية نظام صدام حسين، ولكن من زاوية أمريكا والدول التي تحالفت معها، لم تكن تملك أسبابا حقيقية لتلك الحرب، ولم تسمع للرأي العام الشعبي الغربي الذي لم يؤيد شن تلك الحرب؛ لكن الدافع الرأسمالي كان فاعلا وقويا. ومعلومةٌ الأضرارُ البشرية والمادية الهائلة التي سببتها تلك الحرب، حتى على الولايات المتحدة نفسها، أَوَلمْ تكن ثمة طرق أخرى، أو بدائل أقل ضررا؟!
لكن التفكير الرأسمالي، والأبعاد الدعائية والإعلامية تُفاقِم العدوان؛ فقد كان إنسان الغابة يستخدم العنف ليسدَّ رمقه، كما يقول الدكتور عصام العقاد:laquo; أي أنه كان لديه أسباب معقولة لاستخدام العنف في غيبة القانون والحكومات، ولكن إنسان القرن الحادي والعشرين، يقتل أخاه الإنسان بلا سببraquo;.
وأما البعد الإعلامي فإنه يذكي الصراع ويدعو(على نحو يتعاكس مع مفهوم العار والفضيحة) إلى تعميق (الانتصار) على الخصم، ومن هنا تفهم تصرفات قوات القمع التابعة لنظام الأسد، وهم يفاخرون ويجاهرون على الكاميرات بالقتل والإعدامات والتعذيب وامتهان الكرامة الإنسانية. فليس أن الإنسان صار يقتل أخاه بلا سبب، برغم وجود الحكومات والقوانين، بل إن بعض تلك الحكومات صارت تقتل شعبها المُوَكَّلة بحمايته، وتُشَرْعِن هذا القتل...!!! فهذا العدوان من قبيل الاستجابة التي تعقب الإحباط.؛ فقد عجز النظام عن بلوغ أهدافه بالطرق السلمية؛ فلم يبقَ له إلا العدوان والتَّفنن فيه!
يشير لورينتس(عالم حيوان نمساوي، ومؤسس علم سلوك الحيوان) إلى laquo; أن العدوان عند الذئاب، مثلا، لا يدوم بقدر ما يدوم العدوان، عند الإنسان، فالذئاب تتقاتل بشراسة، ولكن إذا تقاتل ذئبان، ورأى أحدُهما أنه مغلوب، ولا محالة، فإنه يقوم في الحال بإجراء حركات استرضائية، وينتهي القتال، وليس من العادة أن يستمر القتال، حتى الموت، ولا أن يعدو الذئب المظفر على أنثى الذئب المغلوب وجرائهraquo;.
ولكن في إسرائيل، مثلا دعوات عنصرية من حاخامات تعمم القتل على الفلسطينيين، لأنهم فلسطينيون، ودولتُهم تقوم بحصار الجميع، ومنع الجميع من حرية التنقل، وتهدم البيوت، في القدس، وغيرها بحجة عدم الترخيص، وهي التي تجعل من الترخيص أشبه بالمعجزات، وهي لا تتورع، إذا اقتضى الهدف الأمني، أن تهدم عمارة سكنية كاملة على رؤوس الصغار والكبار، مزهقةً أرواحهم، وقاتلة لأحلامهم ومستقبلهم.
ثم، وبرغم كل هذه الممارسات الاحتلالية، لا تفلح laquo;الأمم المتحدةraquo; القائمة على تحقيق السلم والعدالة، في تمكين الفلسطينيين من الحد الأدنى من حقوقهم التي تعترف لهم بها، ونصت كثير من قراراتها على أحقيتهم بها.
ولا يخفى أن ثمة خللا واضحا في نظام هذه الهيئة الدولية، يتجلى في الفجوة بين القرارات وامتلاك آلية التنفيذ، أو في سيطرة الولايات المتحدة، وهي أكثر الدول الخمس تحكيما لمصالحها، ونظرتها الخاصة، ولو ناقضتْ غالبيةَ الدول، وأفضتْ إلى استدامة الظلم والاحتلال، كما في قضية فلسطين، مثلا.
هذا الخلل القائم في بنية laquo;الأمم المتحدةraquo; قائم كذلك في علاقة الدول بشعوبهم، ومدى تمثيلها لهم، وأخذها برأيهم، أو في السماح لآرائهم بالتشكل في جو طبيعي بعيد عن التزييف الإعلامي، وسواه.
وكان (كانت) قد فضَّل، في كتابه الآنف الذكر، الحكم الجمهوري، على الملكي؛ لأن للشعوب في الأول دورا في تقرير الحرب، أو السلم؛ فهم الذي يدفعون الثمن، وهذا صحيح، إلى حد ما، وقد كان لبعض الشعوب، في أوروبا أثر في منع حكوماتها من الاستمرار في بعض الحروب، ولكن تحكم رأس المال، والقدرة على التحكم، وصناعة الرأي العام من العوامل التي تعيق فاعلية الشعوب الحقة.
وإلا فإن تنوير الشعوب، وتوعيتها سياسيا، وتهذيبها أخلاقيا، وإنسانيا تبقى أمورا لا بد منها للحد من تلك العدوانية التي قد يتردى إليها الإنسان، في علاقته، بأخيه الإنسان. فكما في الإنسان عدوانية خطيرة فإن فيه ضميرا ونفورا من الظلم، وحبا للعدل، فطري، وأصيل.

[email protected].