انفتح الجرح العربي؛ فمتى، وكيف يلتئم؟ انفتح على فساد، واحتقان، وتكشَّفَ للهواء، بل للريح العاصفة..فلا بد من إجراءات عاجلة، إلى أن تَنْضَج بيئةٌ صالحة للبناء المجتمعي.
فليس دقيقا أن نطلق على التجمعات العربية اسم مجتمعات؛ على اعتبار أن المجتمع يتطلب قدرا كافيا من التجانس الفكري والشعوري، يضمن لأفراده علاقاتٍ دائمية، تقوم على رؤية متقاربة للمصالح، ومشاعر واحدة تجاه الوقائع المهمة... وأما تجمعاتنا العربية فتجتمع في بعض القضايا، سلبا، لا إيجابا، فبعض هذه الشعوب، كما في تونس، ومصر، اتفقت في غالبيتها على الإطاحة بالقيادة السابقة، وكان مُحرِّكَ هذا التوجه العام أمورٌ إنسانية مشتركة، لا تحتاج إلى فكر معين.. كالشعور بالظلم، والحرمان، والتهميش، والإذلال... وحيث لم تستشعر الغالبيةُ الساحقة مثلَ هذه المشاعر، لم نجد حسما جماهيريا كافيا، كما في اليمن وسوريا.
وبعد أن نجحت بعض الشعوب، كما في مصر، في إسماع صوتها، وإزاحة عقبة كأداء من طريقها، انطلق حراكُها الذي طالما كُبِت.. فثمة طاقة جامحة للعدالة والحرية، وثمة تَعَجُّلٌ، ومطالب جزئية يومية متراكمة، وأخرى كلية تتعلق بالدستور، وقانون الانتخاب، وموعدها... والأدهى من ذلك مشكلات كانت مؤجلة، انفتحت الآن في وجه الثورة، كتنظيم العلاقة، بين الأقباط من غير المسلمين والمسلمين.

فأين الخلل؟
الخلل في بنية المجتمع العميقة، حيث لم تعد الرابطة الوطنية، والروح المصرية، قادرةً على التغلب على المحرِّكات المتنامية، وقسمٌ منها ديني، إذ تنامى الحسُّ الديني الإسلامي، منذ ثمانينيات القرن الماضي، على نحو واضح، ولم يكن انضباط هذا الاندفاع الديني تاما، ورافقَه اندفاعٌ في الاتجاه القبطي، تشرَّبَ من طبيعة الطقس السائد، خوفا وترقبا حساسا...
ولما وصلت مصر إلى هذا المفترق السياسي والمصيري بلغ التوتر ذِروتَه، تعبيرا عن رغبات كل طرف، ومَخاوفِه، أيضا... ولكن هذا البلد الذي تغيب فيه الحدود الدنيا من القواسم الفكرية الكلية، يواجه مأزقا قياديا. وهو قد اعتاد نمطا من القيادة قائم على تضخيم القائد الفرد...
وفي هذا الخلل الفكري نفتقد القيادات الفكرية القادرة على التحقُّق؛ إذ لم تسمح النُّظم السابقة بنمو مثل تلك القيادات، كما أن طبيعة العصر، وزيادة الوعي الجماهيري صعَّبَ الاقتناع الواسع بوجود قامات فكرية سامقة يستشعر الناس تجاهها تعظيما غير عادي.
كما نفتقد القيادات السياسية القادرة على التأثير الكافي، والفاعليةُ السياسية، هذه الآونة، مشتتةٌ بين أحزاب وقيادات لا يدِّعي أيٌّ منها التمثيل العام، ولا يمكن أن يظل المجلس العسكري ممسكا بالقيادة إلى أمد يطول..
ومع ذلك، فإن ثمة علامات مضيئة، وسط هذه المعمعة، ولْنبقَ في النموذج المصري، من هذه العلامات أنه لا حديث عن دولة طائفية في دستورها، كما هو النموذج اللبناني، وثمة قيادات سياسية من الأقباط تقبل بما يحافظ على طبيعة الدستور المصري الوطني...
كما أن رأيا قويا في صفوف الأقباط يرفض التدخل الأجنبي، أو الحماية الأجنبية لأماكن العبادة...
وعلى الرغم من كل التحذيرات الجدية من الخطر الذي يهدد مصر فإن عوامل العيش المشترك، والعلاقات التاريخية الراسخة لا يمكن شطبُها، كأنها لم تكن؛ فغالبية الناس مسالمون بطبعهم، ومنشغلون بقضاياهم المعيشية.
وحتى تُبنى قواعد فكرية مشتركة، أو تترسخ آلياتُ حلِّ الخلافات، ومؤسسات صنع القرار، فإن تجفيف منابع الفتن، ونزع فتيل الاحتقان ضروري.. بالطبع لسنا من يحددها؛ فأهل مصر أدرى بها. لكن لا بد من مَلْء الفراغ. وليس بالضرورة أن تكون الانتخابات النيابية فقط هي ما يملأ الفراغ، بل لا بد من خطاب مُوَحِّد، ومن إبراز الدور الذي يجب أن تضطلع به مصر، في هذا الخطاب، والمخاطر الخارجية التي تهدد أمنها القومي، وهيبتها...
فهذه الشعوب العربية بحاجة، أولا, أن تشفى من الإحباط، وتَضاؤلِ الثقة، بحاجة إلى أن تمارس حقها؛ كي تشعر بالمواطنة، والمشاركة، وبحاجة إلى رسالة تحملها، وتدافع عنها؛ فإن العظائم، إذا غابت، أو غيِّبتْ، نبتت، وانتعشت الصغائر، ثم أعيا العقلاءَ حلُّها.
ومن المفروغ منه أن شعبا مثخنا بجراحه الداخلية لن يقوى على التطلع إلى الخارج، أو إلى بنائه الكليِّ، حتى.. ولكن الإغراق في نفس المشكلة، والإمعان في الدائرة الضيقة ربما يجعلها آسِرةً لنا، ومعيقة عن النظر الأبعد.
[email protected].