منذ أن رفض رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، النزول عن الشجرة، والعودة إلى التفاوض، إلا بوقف حكومة نتنياهو للاستيطان، وقبول الأخير مرجعياتٍ واضحة لعملية السلام، ظهر خلافٌ فلسطيني مع الموقف الأمريكي الذي تراجع عن اشتراط وقف الاستيطان، وطالب الطرفين بالرجوع إلى التفاوض.

لكن إدارة أوباما لم تندد بموقف السلطة، ولم تضغط عليها، ولم تقطع صلتها بها، أو توقف المساعدات المالية لها...؛ فقد تفهمت وضعها، وأدركت ضعف موقفها، أمام الرأي العام الفلسطيني، والعربي، فيما لو عادت إلى التفاوض، بعد سنين عشرين من التفاوض غير المجدي، وفي ظل استمرار الاستيطان.

وعندما وقَّعت السلطة في القاهرة، بعد الثورة في مصر، اتفاق المصالحة مع حماس، أظهرت إدارة أوباما ترويا؛ لترى برنامج الحكومة السياسي، ولو أنها لم تظهر ابتهاجا لهذه المصالحة، لكنها لم تعلن قطيعة مع السلطة بسببها، وقد كان لعباس أسباب وجيهة تدعوه إلى توقيع هذه المصالحة التي لم تُتمَّم حتى اللحظة، ولم تتشكل بموجبها حكومة، وظلَّ موقف السلطة السياسي هو هو ، وأُرِيدَ للحكومة أن تكون حكومة تكنوكراط. ومنظمة التحرير, ورئيس السلطة هو الذي يمثل الخط السياسي الذي يستبقي التفاوض مع إسرائيل.

فالإدارة الأمريكية التي عوَّلت عليها السلطةُ الفلسطينية بالكامل، وانخرطت في المتطلبات والشروط التي طالبتها بها، لم تنجح في مساعدة السلطة، في التقدم نحو حل تاريخي للصراع، وبان ضعف أوباما أمام نتنياهو، على نحو محرج.

وانتقل الحرج إلى السلطة التي قد يعني لها هذا الحرج سقوطَها، وافتقادَها لمسوغ بقائها، بعد أن تلقَّت رموزُ السلطة ضرباتٍ قويةً متتابعة، كان منها ضربة laquo;تقرير غولدستونraquo;، واتهامها بالعمل على تأجيله، وكذلك ضربة الوثائق التفاوضية المسرَّبة، التي كشفتها laquo;قناة الجزيرةraquo; في حرب إعلامية أُعِدَّ لها جيدا.. لم تمر على السلطة، دون أن تحدث اهتزازات، كان منها، فيما يُعتقد، قضية دحلان، القيادي الفتحاوي الذي أحدثت ملاحقتُه قضائيا شروخا في فتح بين الموالين له في غزة، وقيادة فتح في الضفة.
في هذه الظروف بادرت السلطة، وأبو مازن، إلى طلب العضوية الكاملة من الأمم المتحدة، للدولة الفلسطينية، وهنا تصادمت مع الموقف الأمريكي المعلن الذي يصر على أن التفاوض المباشر هو الطريق المناسب لإنجاز هذه الدولة. وبذلت laquo;القيادة الفلسطينيةraquo; جهودا جدية مضنية؛ من أجل حشد التأييد الدولي؛ للتصويت لصالح القرار. وتدرجت في خطتها من العضوية الكاملة في مجلس الأمن، إلى الدولة المراقبة في الجمعية العامة، ومسعاها الأول: العضوية الكاملة، يحرج الولايات المتحدة، ولا سيما بعد أن قاربت عدد الدول في مجلس الأمن على أن تكون تسعا؛ ما يضطر المندوب الأمريكي، إلى استخدام laquo;الفيتوraquo;.

ولكن هذا الحرج ليس جديدا، على أمريكا، ولا ثمة تطور جوهري في الانحياز الأمريكي الدائم والمطلق لإسرائيل، ولا سيما في أروقة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ولو أن للحالة العربية الراهنة بعض الخصوصية.

وعودا إلى السلطة، و(أبو مازن) فهو لم يتنصل من عملية السلام، ولم يرفض الرجوع، فورا، إلى التفاوض، لو قبلت حكومة نتنياهو بمرجعيات للعملية التفاوضية، وهي حدود الرابع من حزيران، ووقف الاستيطان والقدس الشرقية عاصمة للفلسطينيين، وهي الأمور التي يعترف بها العالم، بما فيه أمريكا. وعباس لم ينقلب إلى النضال المسلح، واستبقى النضال السلمي، وهو لم يتقصد إحراج الولايات المتحدة، ولا حتى عزل إسرائيل، لكنه في الواقع يريد إنقاذ السلطة، وحفظ ما يمكن من ماء وجهها.

فهل تجهل أمريكا هذه المعطيات الفلسطينية؟
يصعب تصديق ذلك، ولكن، كما هو معروف، كان أوباما محكوما بعوامل داخلية أكثر مما راعى الاعتبارات الخارجية. لكنه مع ذلك لا يقبل أن يدمر كل laquo;المنجزاتraquo; التي تحققت في السلطة، وحققتها، على المستويات الأمنية والمالية والمؤسساتية، وغيرها.
فقد ذكرت (صحيفة نيويورك تايمز) أن أوباما استعان بنتنياهو؛ ليقنع الكونغرس الأمريكي، بعدم حجب المساعدات المالية عن السلطة؛ لما لذلك من تداعيات خطرة على السلطة، وقدرتها على الوفاء برواتب العناصر الأمنية.

وثمة مؤشرات واضحة على تراجع أمريكا عن الدفاع عن سياسية نتنياهو، وتركه يقلع شوكه بيديه، منها تلك الردود الأمريكية المخففة على إجبار طاقم السفارة الإسرائيلية في القاهرة على الهرب. وكذلك ردة فعلها على تأزم علاقة تركيا بإسرائيل، ورفع درجة التوتر بينهما، حتى الاقتراب من لحظات التحرش العسكري.

وأوضحُ من ذلك تصريحات أمريكية مباشرة، على لسان وزير الدفاع، ليون بانيتا، قال فيها:laquo; إن عزلة إسرائيل في الشرق الأوسط تتزايد. وأن على إسرائيل أن تبدأ محادثات سلام مع الفلسطينيين وتستعيد العلاقات الطيبة مع مصر وتركيا.raquo;
كما نقل وزير الدفاع الأمريكي، إلى السلطة، وَفْق صائب عريقات، laquo;أن الإدارة الأمريكية تبذل جهودا كبيرة، من أجل إعادة النظر في قرار الكونغرس قطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية. كما قال للرئيس عباس: إن الخلافات بين الولايات المتحدة والجانب الفلسطيني، عميقة، دون أن يعني ذلك القطيعة، مع السلطةraquo;.
وفي المحصلة، إن الإدارة الأمريكية، أو هكذا يفترض، مستاءة من نتنياهو أكثر مما هي مستاءة من عباس، ولكنها مغلولة اليدين؛ بسبب رغبة أوباما والحزب الديمقراطي، بالفوز في ولاية ثانية، فهي غلَّبت الاعتبارات الداخلية، لكنها، بعد الانتكاسة الخارجية، والعربية تحديدا، مضطرة، فيما لو لم ترغب، إلى مقاربةٍ تخفف حدة الانحياز للطرف اليميني الإسرائيلي.
والإدارة الأمريكية لا بد تدرك، أكثر من أي وقت مضى أهمية (الاستقرار) في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو الأمر المهدَّد، على نحو خطير، في حال انهارت السلطة، أو تداعت للانهيار. ولا سيما في هذه الحالة العربية المتحركة، فانهيار السلطة له تداعيات مباشرة على الأردن، وعلى الجوار العربي كله. ولا يمكن للسلطة أن تظل في نفس المربع، وفي نفس الخطاب السياسي المستهلك؛ فكان لا بد لها من خطوة تنعشها، وتعيد لها بعض الصدقية.
[email protected].