نحن في مرحلة جديدة، تتكشف صفحاتُها، وتتكوُّن جذورها، تأبى أنماطَ الحكم الطاغية، وكلُّ يوم يمرُّ يراكمُ فوقها غبارَ التآكل، والاندثار... فلا تعبأْ كثيرا بالتفاصيل، ولا بكيفية السقوط، ولكن أيْقِنْ بالنهاية المقتربة لكل طاغ، ولو ادعى الخصوصية.
لم يكن الكثيرون يتوقعون، عشية الثورة التونسية، والمصرية، أن يُلمَّ بالقذافي ما ألمَّ بزين العابدين، ومبارك, فقد قيل إن ليبيا ذات مساحة واسعة، وكثافة سكانية قليلية، بالقياس إلى غيرها، والمدن متباعدة، فضلا عن تمكُّن القذافي، ونفوذه الواسع، وظل البعض يراهن على امتداد جذوره في ليبيا، وفي إفريقيا، وفي القبائل الشديدة الولاء له، كما ظل الرهان على ما يملك من أموال...
لم تكن كل المدن الليبية على قلب رجل واحد، ثورةً، ضد القذافي، وتصميما...، وظلت العاصمة طرابلس، في ظاهرها، تحت السيطرة، بل في حالة هدوء... حتى إذا نضجت الظروف، حولها، وكانت النار فيها تحت الرماد، انكشف بيتُ القذافي عن خواء، وعُرُشٍ مُهدَّمَة.
صحيح أن سقوط القذافي لم يكن ليحدث، لولا التدخل العسكري الحاسم من الناتو، ولكن: هل كان الناتو سيتدخل، لو أنه لم يلمس حركة احتجاج واسعة، وحقيقية، في الشعب الليبي، ولو لم تستشعر دول الأطلسي، (ومنها دول كانت ليبيا لها البقرة الحلوب، في عهد القذافي) فلماذا تسمح بانفتاح ليبيا على قوى سياسية، منها غير المحسوم، من حيث الولاء، ولا من حيث التوجهات الفكرية؟!
ولا تزال المخاوف تساور أمريكا من أن لا تستقيم (الدولة الليبية) على المستوى الأمني، والديمقراطي، والمؤسساتي؛ بسبب قوى في الثورة، ربما تتنافس، أو تحاول جر البلاد إلى مناطق أخرى، وتوجهات فكرية لا ترتضيها؛ فقد كان التخلص من القذافي أمرا لا يخلو من مخاطر، ولا يزال، ولم يكن القائد الأممي، بعد أن (استعاد عقلانيته) على عناد مع أمريكا، بل إنه كان متعاونا استخباراتيا معها، وظل حتى الرمق الأخير، يقدم الجزرة، مع التحذير من الجماعات المتطرفة، ظل يلمح إلى النفط، وإلى أنه ورقة الاستقرار، وحاجز منيع أمام سقوط ليبيا في جحيم القاعدة... لكن الغرب، وأمريكا لها مجسات دقيقة، ومعلومات وثيقة، ميدانية، وله اتصالات مع الفعاليات الميدانية والسياسية... خلصت من كل ذلك إلى ترجيح التخلص من القذافي، أو رفع الغطاء عنه...
ولا نغفل السبب الذي لا يقل أهمية، وهو أن هذا النمط من الحكم القائم على استغباء الشعوب، والكابت لطاقات شعبه، والمتفرد بحكمه بالجبروت، والمحتكر للإعلام، والذي يقتل الحياة السياسية الطبيعية، أو شبهها، مثل هذا النمط، أو اللانمط لا يمكن القبول به، بعد اليوم، أو الاستمرار في التعويل عليه.
ومما شجع على قرار القضاء على حكم القذافي أنه لم يكن على علاقة طبيعية، أو جيدة مع محيطه العربي، بل كان كثيرا ما يعمل على هدمه، في الوقت الذي عمل فيه على التقوي بنفوذه الإفريقي الذي لم يغنِ عنه من غالبية شعبه، ودول الأطلسي، شيئا.
وبعد أن أسرف القذافي في قتل شعبه، وبعد أن كان على وشك الإجهاز على بنغازي هبت الدول الفاعلة، عالميا، إلى الاتفاق على التدخل العسكري لحماية الشعب الليبي، وكان التوسع في استخدام القرار الأممي... وكانت الجامعة العربية هي المقدمة الضرورية لهذا التدخل الدولي.
فهل بشار يختلف؟
الدولة في سورية لا تختلف في جوهرها عنها في ليبيا، فالحكم الأمني هو النافذ، فعلا، والاضطهاد لمعارضي الرأي واسع، وتاريخي، واحتكار الإعلام حدَّث عنه، ولا حرج... فالبنية السياسية هي البنية، وإن اختلفت مفرداتُ الخطاب الذي تتعكز عليه الدولة، من مقاومة وممانعة، وهي في الواقع أكبر مَنْ وفر الاستقرار مع إسرائيل، على حدودها، وهي التي، في وقت الشدة استخدمت نفس الخطاب الذي استخدمه القذافي، من كونها ضمانة الاستقرار لإسرائيل، وأنها تحارب جماعات مسلحة متطرفة دينيا...

وثمة نقاط تشابه كثيرة، بين سلطة بشار، والقذافي، فهو قد عوَّل على إيران، وحلفاء إيران، ولم ينجح في بناء علاقات عربية متينة، أو قائمة، على الثقة، بالطبع هذا عامل مؤثر في قرارات الدول الكبرى، كما هو مؤثر في قرارات الجامعة العربية وتوجهاتها، وليس وحده الحاسم، فقد كان نظام مبارك على علاقة ممتازة مع النظام العربي الرسمي، بل كان دعامته الأهم، ولكن انفضاض الشعب المصري عنه، وحياد الجيش كان هو الحاسم؛ للتخلص منه، أو رفع الغطاء عنه، دوليا، وأمريكيا.
وكما لم تنفع دولٌ إفريقية القذافي، فالأرجح أن إيران لن تنفع بشارا في وقت الجِدِّ، وعندما تنضج الظروف العربية والإقليمية، وتقترب ساعة الحسم... ومن الملحوظ أن الدائرة تضيق، على بشار والطاقم الذي معه... ويمكن عَدُّ المهلة التي أعطتها الجامعة العربية الفرصةَ الأخيرة، لبدء نزع الشرعية العربية عن (نظام الأسد) تمهيدا لنزع الشرعية الإقليمية والدولية... وساعتها ستتنامى مِساحةُ الرفض الداخلي له، وسيتقلص أثرُ الخوف الذي يمنع الكثيرين من الانخراط الواسع في الثورة، وسيعيد أصحابُ المصالح والأموال حساباتهم؛ لحفظ خط الرجعة، وربما تتعزز عوامل الانشقاق العسكري، على مستويات أرفع، وأهم... والمؤكد أن هذا القتل الذي يُعْرَض، بالدم السوري الساخن للعزل والأطفال لن يمر، أو يُنسى، دون أن يزيد من لهيب الغضب الشعبي، والعالمي العام.
ومن الناحية الإجرائية يُعدُّ تَشكُّلُ المجلس الوطني السوري النواة الضرورية للمرحلة السورية الجديدة، وهو في طريقه إلى الاعتراف العربي والدولي، فظروف تشكله ترجح ذلك...
والخلاصة أنه قد لا يكون من المفيد البحث عن نقاط افتراق بين الحالة السورية، والحالة الليبية ما دامت المكونات الجوهرية متشابهة، وليس من السهل التنبؤ بكيفة سقوط النظام في سورية، ولا طبيعة التداعيات والتطورات داخليا، وخارجيا، لكن استمرار التحريك لدولاب الثورة السورية، واستمرار التظاهرات والحركات الاحتجاجية سيضخ دماء جديدة في شرايين قابضِ روح نظامٍ يُزهق أرواحَ السوريين، ويكبت روحَ سورية.
[email protected].