في العالم العربي، أو في جُلِّ أقطاره، ليس ثمة علاقة متوترة، كعلاقة الشعوب بحكامها. وليست هذه الحالة وليدةَ هذه المرحلة، ولكن تراكم الاحتقان قد دفع بها إلى السطح.

فغالبية الحكام وصلوا إلى الحكم بالانقلابات العسكرية، أو ورثوا نظاما عسكريا، ولا يمكن لهم أن يثبتوا اختيار الناس لهم، أو رضاهم عنهم، كما لا يمكنهم نفيَ علاقاتهم الجيدة، والممتازة، مع الدول الغربية، التي يفطن بعضُهم، وقت laquo;الشدةraquo; من الداخل وlaquo;التخليraquo; من الخارج، أنها دولٌ استعمارية، كما هو حال القذافي وبشار، مثلا، اللذين أكثرا من ذكر laquo;الاستعمارraquo; كما العلكة، في أفواههم.

والسؤال: ما الذي يضطر شعبا عربيا ناضل طويلا من أجل دحر الاستعمار، ونيل الاستقلال الكامل، وعانى من لظى التدخلات الخارجية، ما الذي يضطر تلك الشعوب إلى التعاون، مع الخارج؛ لاستئصال رئيس بلادهم، والمفترض أن له مكانة معنوية ووجدانية عميقة؟
لأنه يمثل الشعب، بمعتقداته، ومُقدَّراته، وشرف الوطن والمواطن.

وكلُّ شعوب الأرض تغضب، وتُستثار، لو تَعرَّض رئيسها للإهانة، ولا سيما من أطراف خارجية، ولكنها تحس بهذا الإحساس، وترى ضرورة الرد الذي يرد الاعتبار؛ لأنها تراه حاكمها فعلا، ورمز البلاد، وممثل إرادة الأمة، أو غالبيتها.

وهنا الحلقة المفقودة في كثير من قادة الشعوب العربية؛ فهم سقطوا على الناس كالقضاء (المستعجل) فلم يعاملهم كثيرٌ من الناس إلا بالصبر، كأي ابتلاء، وبالمداراة.

وكانت هذه الحالة، على سلبيتها، فرصةً؛ لاستيلاد حالة إيجابية، بحيث يُصلِح الحاكم، وهو الذي يملك صلاحيات واسعة من تلك العلاقة، ولو لم تُنشَّأ على أسس سليمة؛ بالإصلاح القانوني، وبمَأْسسة الدولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وزيادة النمو الاقتصادي، ومن إصلاح التعليم، والرعاية الصحية، وما إلى ذلك من أمور يلمس المواطن العادي أثرَها المباشر عليه، ولن يكترث الشعب، ساعتها، لكلام النخبة الثقافية، فيما لو ظلت تنتقد؛ فالمتطلبات الحياتية عنده، أصدقُ أنباءً من الكتَّاب والكتب.

وقد ثبت أن الخارج لم يكن معيقا لهم عن مثل تلك الإنجازات، وأكبر دليل على ذلك أن هؤلاء الحكام، من مثل القذافي، والأسد، عاندا، مع وسعهما العناد، هذا الخارج، بل إنهما تمكنا من بناء منظومة سياسية وأمنية واقتصادية لا ترتبط إلا بهم، ولا اتصال لها بقوى خارجية، ولو كان لبعض هؤلاء المؤثرين صلات خارجية لما تباطأت الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا من استخدامها للإطاحة بالقذافي مثلا، أو ببشار، ولا نلاحظ تخلي هؤلاء الأزلام والصنائع عنهم إلا بعد اليأس التام، والسقوط الذريع، أو قُبيله.

والشاهد في هذه الجزئية أن التدخل الغربي ليس كليا، ولا مطلقَ القدرة، وأنَّ معظم البلاء إنما هو من صنع هذه العقلية الحاكمة المتخلفة والقبليِّة المستبدة والمستهترة، حتى الاستعباد والإذلال، للشعوب التي، للأسف، تواطأت مع هؤلاء الطغاة، فترة طويلة؛ حتى لم يعد بإمكانها المزيد!

ولما كانت هذه الشعوب المظلومة قد أُسقط بأيديها، وأُفرغت من كثير من عناصر قوتها، حين اتَّبع هذا الحاكم وصفةً معروفة وبسيطة تقوم على تجويع المعظم، إلى حد معين، وإن كان في الأخير تجاوز هذا الحد، وإثراء فئة أخرى هي المقرَّبة، أو الموالية، وهذه الفئة تشكيلة منوعة تشمل تجارا ومهنيين ومثقفين وإعلاميين ورجال تعليم ورجال وعظ، وغيرهم؛ فيصبح ارتباط هؤلاء، بالحاكم ارتباطا عضويا؛ حتى إنهم يتوهمون أنهم يحبونه، فعلا، وهكذا يظن المراقب، وليس غريبا هذا التداخل بين الرأي والمصلحة؛ فالأول يتأثر بالثاني، بوعي، أو بلا وعي.

ولذلك ما إن ينعزل الحاكم، ولا يعود بيده شيء من تلك المنافع، حتى يصحو الفكر؛ فجأة، ويصبح الوطنُ فوق الجميع! وفوق كل الزعماء! جريا على نظرية المثير والاستجابة.

وبناء على ذلك الإقصاء والتهميش والنبذ الذي يحس به المواطن العادي ممن لا يتقن فن النفاق، أو ممن لم ينجح، برغم محاولاته، في التقرب من الحاكم، بناء على تلك الفجوة الهائلة بينه، وبين المواطنين المفضلين، يتكرَّس فيه الشعور بالاغتراب، وقد يقوده ذلك إلى اتجاه سلبي بالهجرة، والهروب، خارجيا، أو هروب داخلي، بالاستكانة، والتملق. وقد يكون اتجاهه إيجابيا بالتوجه نحو مقاومة الظلم، والعمل السياسي، المعارض، أو الانخراط في الثورة، عندما تَنضَج ظروفُها.

ولكن هذه الثورة من هؤلاء المستضعفين، الذين جُرِّدوا من القوة العسكرية، والمالية. لا يكفيهم وقود الغضب، لمواجهة العسكر، أو مواجهة الكتلة المالية الصلبة، والقطاع الدائر في فلكها، فالغضب في الثوار يقابله الحرص على المكتسبات الثمينة، في المنتفعين، ولصالحهم تقف دولة مدججة بقوات الأمن والجيش.

ولكن، وقد أصبح الحاكم فائضا عن الوقت، وصار تقبلُّه كإرجاع الرصاصة، بعد الانطلاق؛ فإن القوى الشعبية الثائرة ستبحث لها عن مصدر قوة إضافي، ولا يكون إلا خارجيا.

ولو وصل الغضب الشعبي إلى المساحة الأكبر من الشعب فإن الحاصل ثورة عامة وحاسمة، كما وقع في مصر، حيث اختار الجيش- وقيادتُه، لم تكن على خلاف، مع مبارك، قبل الثورة- الحياد، ثم الميل إلى الشعب؛ لأن الخوف من فقدان السيطرة، أو خسائر لا تطاق، كان هو المتوقع، لو انحاز الجيش إلى الرئيس.

أما في ليبيا وسورية؛ فبرغم قوة الثورة، إلا أن قوى أخرى ظلت إلى جانب (النظام) للمنفعة، أو للخوف...

وفي النهاية لا يمكن أن تصل رمزية الحاكم إلى مستوى رمزية الوطن؛ فليس التعاون مع الخارج؛ للإطاحة به، كالتعاون، مع الخارج لخيانة الوطن، وتسليمه لقوى خارجية، ولو أن الحاكم، في ليبيا، وسورية حاول، على نحو يثير السخرية، أن يماهي بينه وبين الوطن!

وفوق ذلك، وقبله، فإن القذافي، والأسد ليسا فيهما من معاني الرمزية شيء؛ فالأول وصل إلى الحكم عن طريق انقلاب، ودمر ليبيا، وجعل أموالها الطائلة أثمانا للصفقات، والابتزازات، والمشاريع المجنونة العبثية. هذا غير السياسة الوحشية التي انتهجها ضد شعبه، قتلا وسجنا، وترويعا...

وأما الأسد؛ فلم يصل هو الآخر، إلى الحكم بالانتخاب، وهو يكذب، على الملأ، حين يقول إن الشعب السوري هو الذي نصَّبه، في الحكم، ولكن يبدو أنه من فَرْط ما كَذّب، وكُذِّبَ له صدق الكذب!
وسيرته في الناس لا تختلف عن نهج القذافي، ولكنه يزيد عنه في التمسح بـ laquo;المقاومةraquo; فإن كان القذافي زعيما أُمميا، وملك ملوك إفريقيا؛ فإن الأسد زعيمٌ مقاوم، لدولة مقاومة، لن تقاوم، ولن تحارب، ولكنها ضمانة استقرار إسرائيل!
[email protected]