قبل البدء بالإجابة عن السؤال، قد يكون من المفيد التذكير ببعض الأمور، منها أن تقرير صلاحية نظام معين مرهون، أولا، بتمثيل هذا النظام لشعبه، فكريا، وسياسيا، ومن التمثيل السياسي السياسةُ الخارجية للدولة، وعلاقتها بالدول، بناء على ما يخدم مصالح شعبها.
والأمر الثاني أن موقف إسرائيل في الاختيار بين نظام الأسد، ونظام جديد، يندرج ضمن مفهوم السياسة، بما هي فنُّ الممكن؛ فلا يعني تفضيلها بقاء الأسد، فَرَضًا، أنه المثالي لها، ولكنه قد يكون أفضل المتاح، كما لا يعني تفضيلُه إسرائيليا، أنها ستحارب، من أجل بقائه، أو أنها لا تُعِدُّ نفسَها للتعامل مع الخيارات الأخرى الممكنة.
ومن المهم الانتباه إلى أن السياسيين في إسرائيل يدركون أن مشكلتهم في المنطقة العربية ليست مع الحكام، بقدر ما هي مع الشعوب، وأن كل قطر عربي له، بحسب موقعه، ودوره، خصوصية تحْكُم حكامَه، فسورية شعبا، قبل، القيادة، لا تزال بعيدة عن تقبل التطبيع، مع إسرائيل، وأرضها الجولان محتلة، وخاضت مع إسرائيل أزيد من حرب مهمة. فالنظام الذي لا يتوفر إلا على القليل من حظوظ الشرعية الداخلية لن يسهل عليه أن يفرّط فيما يعوِّض عليه من (شرعية الخارج) المستمدة من دوره (الممانع).
فضلا عن أن دور نظام الأسد الحيوي في لبنان، وكذلك، في القضية الفلسطينية يتطلب مثلَ هذا الوجه الممانع والمتصدي للمخططات الإسرائيلية.
ولهذا فإن هذا الدور لا بد أن يُترجم في مواقف عملية، منها، مثلا، السماح بنقل السلاح من إيران إلى حزب الله، في لبنان، ومنها استضافة منظمات فلسطينية في منظمة التحرير الفلسطينية، وحماس والجهاد الإسلامي، ومن ضمن أهدافها المساومة بهم، أو محاولة احتوائهم، وتوظيف مواقفهم (المعتدلة) وقت اللزوم، كما ساعدت سورية، مثلا، وشجعت، لقاءات خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي، لحماس، في لقاءات الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر به، وصدرت عن مشعل بعد اللقاءات مواقف (متقدمة) ليس هنا مقام تفصيلها.
إسرائيل، والأشد تطرفا فيها، ليست مغرمة بنظام الأسد، ومن المؤشرات على ذلك الضغوطُ التي طالما مارسها أعضاء في الكونغرس الأمريكي، على إداراته، ورؤسائه، لعزل سورية، ومؤخرا لثني أوباما عن إرسال سفير إلى دمشق. إلا أن السياسي الإسرائيلي، إذا خُيِّر بين نظام حافظَ منذ ما يزيد عن أربعين عاما على حدود مضبوطة معها، بالرغم من احتلال الجولان، إلا في حرب تشربن التي كان لها ظروفها، وإلا حين أراد في أزمته الأخيرة أن يذكِّر بأهميته فسمح لفلسطينيين ومتعاطفين معهم باجتياز العقبات، والوصول إلى الحدود، للإثارة الإعلامية والتوظيف السياسي، وإلا فلمَ ظلت الحدود طيلة الفترة الماضي لا يُقترب منها، ولا يفكر أحد في الاقتراب؟!
وهذا المعنى صرح به رامي مخلوف الذي ذكَّر بأن سقوط نظام الأسد سيهدد استقرار إسرائيل، ليس بعيدا عن تهديدات قريبه ورئيسه، بشار الذي هدد بأفغانستانات في المنطقة، في حال سقوطه، فأمن إسرائيل، لن يمسه أذى ما دام النظام في سورية مستقرا، كما أن الوقوف ضد المقاتلين، أو المتطرفين، سيبقى التزاما سوريا، ما حافظ العالمُ على بقائه.
والمسألة الحاسمة في موقف إسرائيل لعلها تكمن في أن التركيبة السياسية، بعد الأسد، مجهولة، وغير مضمونة، ففي أقل تقدير: عدوٌ معروف، و(عاقل) خير من عدو مجهول.
صحيح أن ثمة مثقفين إسرائيليين يتحدثون عن شرق أوسط ديمقراطي ليبرالي أفضل من آخر واقع تحت الاستبداد، ولكن المخاوف الإسرائيلية تبقى بعيدة المدى من وصول الإسلاميين إلى الحكم في سورية.
وفي هذا السياق جاءت تحذيرات رئيس الهيئة الأمنية والسياسية، بوزارة الجيش الإسرائيلية عاموس جلعاد، من أن سقوط نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، سيترتب عليه حدوث كارثة تقضي على إسرائيل، مشيراً إلى أن بديل الأسد ولادةُ إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط، بقيادة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسورية.
مع ما في هذه التحذيرات من مبالغة؛ لأن الإخوان في سورية، ليسوا وحدهم، ولا هم قادرون، أو راغبون، بإقصاء القوى السياسية والفكرية الأخرى، وهم قريبون في أطروحاتهم، من حركة النهضة في تونس التي تعلن عن قبول التعددية، وقريبون من نموذج العدالة والتمنية الذي لم يسعَ، بمجرد وصوله إلى الحكم إلى قطع علاقته تركيا بإسرائيل، وحتى بعد أن تأزمت العلاقات بينهما لم تقطع حكومة أردوغان العلاقات مع إسرائيل، وإن خفضت مستواها؛ حتى تعتذر رسميا.
فعلى المدى القريب والمتوسط، ربما، سيكون من الواقعية، إسرائيليا، تقبُّل التغيير الجاري؛ ولو تضمنت البنية السياسية الجديدة أطيافا إسلامية (معتدلة) تقبل بالنموذج التركي، وتصرح بذلك، علنا، وفي هذا نوعٌ من الالتزام السياسي: أن سورية لن تصبح دولة دينية، بقدر ما ستتخذ من الشريعة الإسلامية قوانين تضمن الحريات، وفق أقوال زعيم من زعماء الإخوان المسلمين، في سورية، محمد رياض الشقفة، مؤخرا.

والخلاصة أن إسرائيل إذا خيرت بين أحد نظامين على حدودها، نظام يتقبل وجودها، ويصبر، على احتلالها الجولان، ولا يتهور بحرب، أو بتسخين الحدود، ويؤجل الرد على اعتداءاتها العديدة، على قلب بلاده، وسيادته، إلى الوقت المناسب، ولا يقطع التفاوض معها، كلما تيسر له وسيط، وبين نظام قد لا يتقبل وجودها من أساسه، ويعمل على تهيئة الظروف الداخلية، والإقليمية، ربما؛ لإزالتها؛ فهي بالتأكيد سترى نظام الأسد جوهرة ثمينة.
أما أن القوى السياسية المقبلة في سورية هي، أو بعضها، على هذه الدرجة من الشدة، وقضية إسرائيل، على أول أولوياتها، فتلك مسألة لا تتوفر عليها مؤشرات، حاليا، بل القرائن الحالية تؤشر إلى ضد ذلك.
ولا بد أن الدعم الدولي، والأمريكي لن يتوفر إلا بعد ضمانات من القوى السورية المعارضة، فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، وفي أقله أن لا تضمر هذه القوى، في حال وصلت الحكم، نوايا عدوانية حربية تجاه الدولة الأكثر عناية من الجانب الأمريكي والغربي.
[email protected].