لا تزال أمريكا الدولةَ الأكبر تأثيرا في الأحداث العالمية، ومنها أحداثنا العربية، وقضايانا. صحيحٌ أن القبضة الأمريكية ارتخت، بعض الشيء، لكنها لا تزال تؤثر في الدوائر العالمية، والعربية؛ فهي على أزماتها المالية، وعلى تراجع دورها المتفرد بحل القضايا العالمية، لا ينهضُ لها، حتى الآن، نِدُّ دولي قادر على المبادرة الفاعلة، فضلا عن أنْ يتصادم مع رؤية واشنطن السياسية.
وربما يشي حصولُ فلسطين على عضوية كاملة في منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو) التابعة للأمم المتحدة، مؤخرا، بقدر من التراجع في هيبة الولايات المتحدة، دوليا، لكنه لا يدل جوهريا، على افتقادها السيطرة؛ فلا تصل هذه (الإرادة الدولية) إلى صلب الموضوع الفلسطيني، ولا تزال دول العالم الكبرى، روسيا، وأوروبا بدولها، واتحادها، لا تجرؤ على التفرد بحلٍّ، أو التصادم مع المشاريع الأمريكية، وقد ذكّرت الصحافةُ البريطانية، مؤخرا، بهذه السياسة التي تنتهجها بلادُها، في (الصراع العربي الإسرائيلي)، وكلنا يعلم أين وصلت الجهود الفلسطينية في عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة؛ فلعل في عضويتها في laquo;اليونسكوraquo; بعض تعويضٍ عن الإخفاق الراهن هناك.
وكثرت بعد مساندة أمريكا للثورات العربية الانتقاداتُ لهذا النقص الأمريكي: لمَ لا يقدرُ على الكمال في الشأن الفلسطيني؟! لمَ لا يرى العدالةَ المغيبة والديمقراطية العوراء في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟!
وهو الأمر الذي يحرج أمريكا عالميا وعربيا... ولا تبدو أمريكا غيرَ آبهةٍ بتآكل صدقيتها، وتشوُّه نموذجها الأخلاقي، لكنها (تضحي) به مضطرةً، عند تعارضه مع مصالح حيوية، ومهمة، ومن أهم تلك المصالح الممزوجة بأبعاد عاطفية عامة، في الشعب الأمريكي، دعمُ إسرائيل الدائم وغير المحدود.. فلا تحتاج الإدارة الأمريكية إلى كبير عناء، في الداخل؛ لإقناعه بهذا الانحياز المطلق لإسرائيل؛ لأن صورة الضحية المهدَّدة مكرسةٌ لها في الوجدان الأمريكي، ويرعاها الإعلام، على الدوام، مع أن ذلك يضرب القيم الأخلاقية، على المستوى الحقيقي الأعمق.
فلأمريكا صورة أخلاقية تحرص عليها، أو على الظهور بها.. هذه الصورة الأخلاقية المساندة للحريات في العالم مُستلهَمة، أو مُرادة، للتماشي مع طبيعة الشعب الأمريكي الذي يعشق الحرية ويقدسها... وفي مذكرات الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون ما يدل على هذا البعد: laquo; لم يكن على الولايات المتحدة أن تشكل منارة للطريقة الديمقراطية الداخلية المتفوقة فحسب، بل كان عليها أن تكون مثالا للنموذج الديمقراطي المتفوق أخلاقيا في السلوك الدوليraquo;.
ولكن تحديات الصراعات والمصالح طالما أوقعت واشنطن في تناقضات مُنفِّرة، ومحرجة... وفي تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، قبل أيام ما يؤشر على أن أمريكا عملت على تقديم المصالح الأميركية على الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وقالت في خطابها أمام المعهد الديمقراطي الوطني: laquo; ظل الحكام الديكتاتوريون يقولون لشعوبهم إن عليهم قبول الأوتوقراطيين لتجنب المتطرفين، وقبلنا أيضا الأقوال نفسها من هؤلاء الحكام، وكنا ندفع لتحقيق إصلاح، لكن ليس بالضغط الكافي، وليس بصورة علنية، والآن أدركنا أن الخيار الحقيقي كان بين الإصلاح أو الاضطرابات.raquo;
ولا يغيب عنا أن القرار السياسي في واشنطن لا يُتخذ ببساطة، فثمة تعقيدات تعتريه محلية، واعتبارات انتخابية، ومُقيِّدات قانونية، برغم الصلاحيات المهمة التي يحظى بها الرئيس، ظهر ذلك في قرار قطع المساعدات التي تقدمها واشنطن لمنظمة اليونسكو؛ ما أدى إلى وقفها لمشاريعها الجديدة، وقد تتأثر بذلك برامج تهتم الولايات المتحدة باستمرارها، كالتعليم في أفغانستان، بوصفه جزءا من الاستراتيجية الأمريكية هناك، وإن كانت الإدارة قد تقدم دعما ماليا للمنظمة، بوسائل التفافية.
فمثل هذا القرار الأمريكي محكومٌ بقيد دستوري يحظر تمويل أي منظمة تابعة للأمم المتحدة تمنح عضويتها لأية جماعة غير معترف بها بوصفها quot;دولةquot;.
هذا التعامل الأمريكي المزدوج، حيث الوقوف مع الشعوب العربية المظلومة؛ مهما كانت الاعتبارات، وبغض النظر عن بعض التعرجات والتذبذبات، وحيث كسر الآمال الفلسطينية بلا مبالاة ظاهرة، قد يستطبن تقديراتٍ أمريكية عن مدى حضور الشأن الفلسطيني في العقلية لعربية العامة.. فالإدارة الحالية ترى أن أكبر عوامل الاستقرار في المنطقة العربية يكمن في التحول الديمقراطي الذي يخفض الصراع والتطرف، ويساعد على الابتكار، ويوفر بيئة للتنمية الاقتصادية، وعدالةً في الفرص.
وهي تهتم بالتحول الديمقراطي، بوصفه مصلحةَ أمن قومي، كما ذكرت كلينتون في المؤتمر الذي نوهتُ إليه، لأنه ضروري لمحاربة laquo;القاعدةraquo; وlaquo;حماية حلفائهمraquo; وlaquo;ضمان إمدادات النفطraquo; وهي أهدافٌ ترتدُّ إلى المصالح، في أغلبها، ولحماية الشعب الأمريكي، فيما يتعلق بالقاعدة.
ولكن هذه الرؤية تبدو غير معمقة إلى الدرجة الكافية، ولا بعيدة المدى؛ ذلك أنه صحيح أن الشعوب العربية منهمكة الآن بشئونها الداخلية، وأحوالها الانتقالية، لكن كثيرا من الإشارات دلَّت على أنه لا قطيعة بينهم وبين الشأن الفلسطيني، وقد يعي صانعُ القرار الأمريكي ذلك، ولكنه لا يوليه التأثير الكبير، أو أن اعتبارات المكانة الخاصة لإسرائيل، تقلل من فاعليته.
وفي المرحلة العربية الراهنة المنشغلة بتغيرات عميقة، وتخوُّف نُظمٍ عربية على نفسها، لا يُتوقع أن يكون الالتفات إلى القضية الفلسطينية طويلا؛ فثمة محاور تتصدع، وثمة خريطة تتشكل أفقيا، وقد تتعمق عموديا، إذا وصلت إلى البِنى الطائفية، أو تمظهرتْ في انفصالات في الكيانات السياسية القائمة.
[email protected].