من مفكرة سفير عربي في اليابان

ولنكمل حوارنا مع الأخ أحمد، عن مشكلة الخلط بين العلم والدين والإسطورة، والتي تحدثت الكاتبة البريطانية كارن أرمسترونغ عنه بالتفصيل في كتابها الأسطورة. فتؤكد الكاتبة بأن الأسطورة هي نوع من الفن الذي ينظر الإنسان من خلاله لما وراء حوادث التاريخ ودراسته. وقد كانت خبرة السمو لما وراء الواقع المادي رغبة ونشوة إنسانية دائمة. ويرفع الإيمان الديني الإنسان لهذا السمو النفسي المترافق بنشوة روحانية تطير بالإنسان لما وراء واقعه الحياتي. وحينما فقد البعض نشوة الإيمان في واقعه المادي توجه للإحساس به من خلال الأدب والشعر والموسيقى والرياضة. والأسطورة هي كالقصة والأوبرا والباليه، تصور يمجد عالمنا المنقسم والمأساوي، ويساعدنا أن نتأمل احتمالات وتساؤلات جديدة، وقد يؤدي لاكتشافات علمية وتكنولوجية مهمة. فالإسطورة هي حقيقة، ليس لان وقائعها حقيقية، بل لأنها مؤثرة في إعطائنا العمق للنظر للواقع المادي والاستلهام للإبداع لخلق مستقبل أفضل. والإسطورة هي دليل يوجهنا للتعامل مع الحياة بتناغم وغناء روحي جميل، كما تساعدنا على اكتشاف خبايا العقل الإنساني الذي لا يمكن إدراكه، وهي بداية لعلم النفس. فقصص الإبطال والإلهة الموجودة ما وراء عالمنا، والتي تحارب الجن والأشباح، أبرزت خفايا سيكولوجية الإنسان، وعلمتنا كيف نتعامل مع أزمات الإنسان النفسية الداخلية.
وبداءت حياة الإنسان بعصر الصيد منذ أكثر من عشرين ألف عام، واعتقد الإنسان بآلهة السموات المراقبة والمحاسبة لأخطاءه من خلال الكوارث ألطبيعية، كما تمثل السمو الروحي بالسماء والجبال المقدسة. وانتقلت البشرية لعهد الزراعة في الألفية الثامنة قبل الميلاد، فعرف الإنسان فائدة الأرض والري، وبرزت مع العصور الزراعية آلهة السماء، فعرفت في سوريا إلهة الاشيرة، وفي بلاد ما بين النهرين إلهة اينان، وفي مصر إلهة البايسس وفي اليونان آلهة هيرا وديميتر وافرودايت. ومع بداية عصور الحضارة العمرانية في بلاد ما بين النهرين ومصر والصين والهند وجزيرة كريت، بداء العمل على بناء المدن وتشكيل الولايات. وأستمتع الإنسان بنشوة السيطرة والقوة، فبدأت الخلافات بين الولايات، ونزلت لعنة الطمع والعنف والحروب.
وقد اعتبر أهالي الهلال الخصيب بأن مدنهم هي المكان المناسب لملاقاة الآلهة فحولوها لجنان الأرض، فبداءت تقطن الآلهة المعابد في داخل المدن بجانب البشر فتقارب الإنسان من آلهته. وقد عانت حضارة ما بين النهرين وحضارة مصر من فيضانات الأنهار، واعتبرتها شعوبها غضب الآلهة، فقدمت القرابين لتهدئتها. وبرزت الآلهة من المادة المقدسة الغير محددة، فامتزج الملح مع الماء المر، ولم تكن السموات والأرض والبحار مفصولة عن بعضها. كما كانت الآلهة بدون شكل أو اسم أو مستقبل. وقد كانت أوائل آلهة التي برزت من المزج غير منفصلة من المادة المبهمة: فابسو كان إله الماء النهري، وتيمت إله البحر المالح، والمومو إله السحب الضبابية. وقد تشكلت من هذه الآلهة المبهمة آلهة جديدة، توضحت معالمها وبداءت تنفصل أجزاء الكون عن بعضها البعض، فانفصلت السماء عن الأرض، وبدأت تنفصل اليابسة عن البحار والأنهار. وبدأت تتشكل الآلهة من مزيج من الماء والطين وسميت باللاهمو والاهامو، وبعدها انشير وكيشار، وتعني أفق السماء والبحار، ومن ثم آلهة السموات انو، والهة الأرض إياه. وقد كانوا الآلهة الجدد أكثر نشاطا، فابسو غطس في قاع الأرض، واينو وإياه بنو قصورهم مع المعابد وقاعات المدن، وتحولت آلهة التيمت إلى آلهة خطرة وخلقت وحش ممسوخ للانتقام من ايبسو، وبرزت آلهة مختلفة في بلاد الهند والصين. ومع التطور بدأت الآلهة تبدو بعيدة عن البشر، وبداء الإنسان في العمل للتعامل مع الأزمات الطبيعة، وانتشرت القصائد والأشعار، ومن أشهر القصائد هي أسطورة جلجامش، التي ترجع تاريخها لعام ألفين وستمائة قبل الميلاد.
واستمر تطور مفهوم الآلهة والدين عند الإنسان، فبرزت الهندوسية فالبوذية فالأديان السماوية اليهودية فالمسيحية فالإسلام، وبداءت تنتشر المؤسسات الدينية، وتزداد قوتها المادية والمعنوية. وعملت القوى السياسية على الاستفادة من هذه القوة السياسية الجديدة، كما التفتت القوى الحاكمة لخطورة بداء سيطرة المؤسسات الدينية السياسية على عقول الأفراد، فعملت على فرض سيطرتها والاستفادة منها لتقوية مواقعها المجتمعية. فتداخل الدين بالسياسة، واستغل أهل السياسية الدين لمصالحهم، وبداءت تصدر قرارات سياسية في صياغة دينية، وتوسع غزو البلدان باسم الدين، فتطور الاستعمار، وبدءات الحروب، فعاشت البشرية معاناة الغزو، والاستعمار، والتفرقة العنصرية، والعبودية.
ومع بداء الثورة الفرنسية عام 1789، بداءت حركة التغير في المجتمعات الأوروبية، وترافقت مع تغير الأنظمة الحاكمة والسياسات والإيديولوجيات المرافقة لها. فإنتهى حكم الإقطاع، وصودرت أموال الكنيسة، وألغيت جميع المميزات السياسية التي كان يستمتع بها رجل الدين، وتحول لفرد عادي ضمن المجتمع المدني الجديد. وبداءت تبرز الإيديولوجية الدنيوية، وبهتت المؤسسات الدينية وقياداتها، وترافقت هذه التغيرات السياسية بالتطور العلمي والصناعي، واكتشف الإنسان بأن التطور المادي العلمي سيسخر القوى الطبيعية لخدمته، فضعفت المفاهيم والقيم والأخلاقيات الدينية، وبرزت الأفكار المادية والقومية والماركسية. وبداء صراع السلطة في أوربا من جديد، واستمرت إرهاصات الثورة الفرنسية، حتى برز الإمبراطور نابليون بونابرت بعد انقلاب عام 1804، لتبدأ حروب أوربية متتالية لم تنتهي إلا بمعاناة ودمار الحرب العالمية الثانية، مع قتل مائة وخمسين مليونا من سكان الأرض. واكتشفت أوروبا، وبعد تجارب مريرة قاسية، بان لا سلام ولا تنمية بلا ديمقراطية، ووعت أهمية فصل الدين عن السياسة. فعملت بجد واجتهاد لتطوير نظمها الديمقراطية، وقررت أن تتجنب الحروب المستقبلية، فوحدت جهودها الصناعية والاقتصادية في سوق أوربية مشتركة، ومنها للاتحاد الأوربي.
كما بداء بروز قوى جديدة بعد الحرب العالمية الثانية كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، واستمر الصراع بينهما بحروب مختلفة ساخنة وباردة، ولم تنتهي هذه الحروب إلا بزيارة الرئيس السوفيتي غوربشوف لفرنسا، ليكتشف خلال زيارته بأن التنمية الحقة تحتاج للديمقراطية، فبداءت منذ ذلك الحين التحولات الديمقراطية الروسية، لتنفرد الولايات المتحدة بجبروت السلطة في العالم. ومنها دخلت الولايات المتحدة في حروب تلو الحروب، ليبدأ أفول جبروتها، مع بداء الألفية الثالثة، ومع بدء ظهور قوى عالمية جديدة، ليترافق مع بروز اقتصاد سوق العولمة.
فتلاحظ عزيزي الأخ أحمد بأن تاريخ البشرية مر بتجارب مرة، ليكتشف الإنسان بأن لا أمان ولا استقرار ولا تنمية إلا بحرية الفكر والديمقراطية. فلم ينفع الاستفادة من ديكتاتورية السياسة بالفكر الأيديولوجي أو القومي أو الديني أو الطائفي في إدارة السياسة الدنيوية. فأين سلطة الكنيسة البابوية؟ وأين هتلر وماسوليني؟ فهل ستستوعب دولنا عبرة تاريخ العالم وأخطائه؟ وهل سيستوعب الشعب الإيراني والتركي والعربي هذه الدروس؟ وهل سنستفيذ من تجربة الحروب، والعنف، والدمار، وخسارة، والأرواح، وضياع الترليونات من الدولارات، بسب أفكار قومية شوفينية بالية؟ وهل سيتوقف هولاء الذين يستغلون أسم الدين، لتحقيق مصالح سياسية آنية وزائلة، بنشر الحقد، والطائفية، وتدمير العقول، ومنع الحداثة والتنمية في المنطقة؟ إلا يكفي ما نشروه من دمار، وكراهية، وانتقام، وفقر، وجهل؟ وهل سيعمل شعوب المنطقة لتطوير الديمقراطية والتنمية معا، وبدل الجهد لتطوير سوق اقتصادية مشتركة، لتحويلها لسوق صناعية واقتصادية مسقبلا؟ وهل من الممكن أن تتطور هذه السوق إلى اتحاد اقليمي مستقبلي، ليحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة للأجيال القادمة؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان