من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقشنا معا عزيزي القارئ في الحلقة ألسابقة حاجة مجتمعاتنا العربية لطريقة تفكير جديدة بعد ما سمي بانتفاضات الربيع ألعربي، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية المرجوة، وعرضنا تصورات البروفيسور ادوارد دي بونو، أستاذ العلوم الذهنية والتفكير والذكاء بجامعتي كمبريدج وهارفارد، عن تحديات الية التفكير. فقد عرف البروفيسور أحد أهم آليات ألتفكير وهو ألذكاء بقوله: quot;الذكاء هو الدقة والسرعة الذهنية التي تتم فيها عملية المسح الذهني لما حولنا من معلومات، والتفكير هو المهارات التشغيلية التي على أساسها يعمل الذكاء من خلال سرعة جمع المعلومات والخبرات وتصنيفها وخزنها وتحليلها، للاستفادة منها في التعامل مع التحديات الحياتية.quot; ولو دققنا بدراسة تاريخ العلوم لوجدنا بأن معظم الاختراعات هي نتيجة للتغير في طريقة التفكير التقليدية، فحينما يفكر الإنسان في المعلومات المتواجدة حوله بطريقة مختلفة ومبدعة يتولد مفهوم الاختراع الجديد. فكلنا نشاهد قشرة الموز تسود بنقط تتزايد يوميا، ولكن لا احد منا فكر لماذا يحدث هذا الاسوداد، وحينما فكر شخص في هذا السؤال حصل على جائزة نوبل، لأن تفكيره ساعده على أن يكتشف بأن اللون الأسود هو نتيجة لتفاعل غاز الاكسجين الموجود في الهواء مع مادة موجودة في الموز وهي الفيتامين quot;سيquot;. واستطاع هذا العالم بتفكيره المختلف أن يكتشف فيتامين quot;سيquot; المهم لجسم الإنسان، وبذلك أكتشف علاجا لمرض الإسقربوط، وأنقذ الملايين من المرضى الذين أصيبوا بنقص هذا الفيتامين. كما أن البشر لاحظوا منذ بداية الخليقة سقوط التفاحة من الشجرة على الأرض ولكن حينما فكر العالم الفيزيائي إسحاق نيوتون بطريقة مبدعة، وتساءل عن سبب ذلك، استطاع اكتشاف علم الجاذبية الأرضية، وهو أساس علوم الفيزياء، التي طورت الاختراعات التكنولوجية التي نستمتع بها اليوم.
وانتقد البروفيسور عملية التفكير في الثقافة الغربية بقوله: quot;يرجع فشل التفكير الغربي الذي صاغه عصابة الثلاثة (سقراط وأفلاطون وأرسطو) لعدم تهيئته للتعامل مع التغير، بينما يخرج التفكير المتوازي عن الصناديق والإحكام المسبقة لينتقل لتفكير الاحتمالات الكثيرة والمتوازية، تفكير إيجابي يدرس ماذا يمكن أن يكون، لا ما هو كائن ألآن.quot; وهنا يقترح البروفيسور طريقة تفكير جديدة سماها بالتفكير المتوازي، ويقارن بين هذه الطريقة من التفكير والطريقة التقليدية بقوله: quot;التفكير المتوازي يهتم بالتصميم والاختراع بينما ينحصر التفكير التقليدي بالاكتشاف والبحث. التفكير التقليدي يعتمد على إحكام متحجرة أنية (نعم/لا، صح/خطاء، حقيقة/كذب)، التفكير المتوازي يتقبل احتمالات بدون أحكام مسبقة. التفكير التقليدي يهتم بالمنطق المتحجر الذي تترسب فيه الأفكار بعضها على البعض كطبقات متكلسة، لا يمكن تحريكها بسلاسة. بينما يهتم التفكير المتوازي بالمنطق المائي، كموجات الماء تتحرك بسلاسة متغيرة تحرك أفكارها حين تحتاج الاستفادة منها... التفكير التقليدي يضع الانقسام والإنكار ليفرض الاختيار، التفكير المتوازي يتقبل الإطراف المتناقضة ليكتشف الاحتمالات. التفكير التقليدي يعتقد بأن المعلومة حقيقة كافية، بينما يبحث التفكير المتوازي من خلال المعلومة عن الابتكار والإبداع. التفكير التقليدي يؤمن بأنك حينما تزيل الأشياء السيئة تبقى الروائع، التفكير المتوازي يعمل ليصمم الروائع. التفكير التقليدي يستعمل الجدل المتناقض والتفنيد للاكتشاف، التفكير المتوازي يستعمل التقارب والتعاون.quot;
وما أحوجنا اليوم بعد انتفاضات ما سمي بالربيع العربي لطريقة تفكير مبدعة ومنتجة تدرس المعطيات بميزان متوازي وتستنبط الاحتمالات الممكنة بصدق وتجرد. فتصور عزيزي القارئ لو قبلنا بالأطراف المتناقضة وبحثنا عن ابتكار الافكار وصممنا الروائع واستعملنا التقارب والتعاون للتعامل مع المعضلات المختلفة، وأبتعدنا عن الإصرار لحل المعضلات المستعصية، بل لو تجاوزناها وأكملنا طريقنا للأمام، الم نمنع العنف والدمار والانقلابات والحروب المتكررة ؟ الم نقي ِشبابنا من التطرف الفكري؟ الم نبني مجتمعات عربية مشاركة في التنمية والتطور في عالمنا الجديد؟ وطبعا هذه ليست بأفكار جديدة، فقد تجاوزت اليابان الكثير من المعضلات التي واجهتها بدون حلها بل بتجميدها، وأستمرت الى الأمام. فتعاونت اليابان مع الصين خلال العقود الماضية في كثير من الأمور الاقتصادية والتكنولوجية وتجاوزتا المعضلات السياسية بينهما حتى تأتي الظروف الملائمة للتعامل معها. ألم تتبع اليابان هذه السياسة مع السوفيت حول النزاع على الجزر الأربع الشمالية، التي تعتبر عند شعب اليابان جزر يابانية مقدسة؟ فلم تصل اليابان لقمة تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي إلا حينما أجلت التعامل مع الكثير من الأزمات المعقده التي كانت بينها مع الشرق والغرب، وتجنبت ضياع الوقت، وتفرغت للتنمية والتقدم، بينما إنشغل العرب في القرن العشرين بحروب متكررة، ليتناسوا تحديات التنمية والتطور، ويخلقوا دكتاتوريات quot;مخزيةquot;.
وعلق البروفسور على الوضع المحزن الذي يعيشه العالم من حروب ودمار وتلوث بيئي وجشع مفرط، فقال: quot;فقد نقبل بأن ما حولنا من فقر وتلوث بيئي وحروب متكررة وفوضى محلية هي نتيجة طبيعية للتغير والسلوك الإنساني، وسنتعامل معها كما تعاملنا مع غيرها من قبل، ولو تجاوزنا هذه الطاعة وتساءلنا: هل سبب مشاكلنا هو تفكيرنا الناقص؟ وهل هو السبب في صعوبة تعاملنا مع التحديات الحياتية؟ وهل ستتغير النتائج بتغير طريقة تفكيرنا؟quot; ويعتقد البروفسور بأن طريقة التفكير الغربية التي حددها سقراط وأفلاطون وأرسطو، كانت مهولة لتقدم الحضارة البشرية، ولكن قد لا تكون الطريقة المناسبة اليوم، لعالمنا المعقد والمتغير بسرعة هائلة، وتساءل عن الحقيقة السقراطية المتكلسة التي نبحث عنها، وكيف نعرف بأننا وجدناها؟
فالطريقة التقليدية السقراطية لحل المعضلات تعتمد على جمع المعطيات وتحليل المشكلة واكتشاف السبب والتخلص منه؟ ولكن يبقى السؤال: ما العمل إن لم نكتشف السبب؟ وما الحل إذا لم نستطع إزالته؟ لذلك يقترح البروفيسور التفكير المتوازي لكي نتجاوز الأسباب ونبحث عن طريقة أخرى للتحرك للأمام. وهذا ما عمل من خلاله الشعب الياباني بعد الحرب، فالأرض محتله والدستور غريب على الشعب، ولا توجد موارد طبيعية، والمدن محروقة والبنوك خالية من الأموال، ومع ذلك قرر الشعب الياباني أن يعمل من خلال جميع هذه العوائق، لا أن يزيلها، ويتحرك للأمام، بل يتعاون مع العدو ويبني بلاده، ولم يقبل بعذر الانتقام أو القومية أو الوطنية أو أخطاء العسكر ليمنعه من التحرك إلى الإمام وبناء المستقبل.
ويؤكد البروفسور بأنه quot;من الجنون أصلا أن نستمر في الاعتقاد بان تحليل المشكلة يكفي لحلها، ونحن نطبق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع، وقد كانت هذه الأفكار كافية لإزالة شاه إيران والرئيس ماركوس في الفلبين والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا والشيوعية في الاتحاد السوفيتي.....فنحن قادرين للعمل ضد شيء نعتقد بأنه خطئ....ومعظم الثورات عملت ضد شيء معين تعتقد بخطئه....ولكن ماذا حدث بعد ذلك، فوضى وقد تحول الوضع لأسوء من قبل.....لذلك يجب أن نطور التفكير التنفيذي البناء.quot; وهنا قد تتكرر نفس المأساة بعد ما سمي بالربيع العربي، فمع الأسف الشديد تعليمنا في الوطن العربي يدرب على الوقوف ضد الأشياء وإنتقادها، فنحن منتقدون بارعون ونستطيع أن نثور ضد شيء ما وندمره، ولكن لدينا العجز وكل العجز في أصلاح الشيء وتطوير بناءه، فالهدم بإنتفاضة وثورة وإنقلاب سهل، ولكن يحتاج البناء لكثير من المهارات الذهنية والخبرات الحياتية، وحكمة التصرف. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين باليابان
التعليقات