من مفكرة سفير عربي في اليابان
دخلت منطقة الشرق ألأوسط مع بدايات القرن الحادي والعشريين مرحلة جديدة من تطورها ألتاريخي، بعد ما عانت شعوب العالم من عولمة الرأسمالية ألفائقة، والتي سببت تباين الثراء، وارتفاع أسعار الحاجيات الأساسية للإنسان، مما أدى لانتفاضات عام 2010، لتمتد هذه الانتفاضة من مدينة نيويورك إلى شوارع لندن ولتشعل الانتفاضات ألثورية والإصلاحية لما سمي quot;بالربيع العربي.quot; وقد ترافقت هذه الانتفاضات بنجاح الحركات السياسية الاسلامية في الانتخابات واستلام قياداتها السلطة، من خلال الانتفاضات والثورات، كمصر وتونس، أو من خلال الإصلاحات التدريجية، كالمملكة المغربية. وسيكون أمام هذه القيادات تحديات اصلاحية اقتصادية واجتماعية جسيمة، وستواجه تحديات تحمل الخلاف والمساءلة والنقد، وستحتاج للحكمة وحسن المعاملة مع المعارضة المستقبلية، مع بدء المبادرات الخلاقة. فهل ستكون هذه القيادات على المستوى المطلوب من هذه المسئولية لخلق مجتمعات عربية مترابطة ومستقرة ومتناغمة، لتزيد الإنتاجية، وتحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المرجوة في القرن الحادي والعشرين؟ أم ستكرر من جديد سلبيات الثوارت العربية في القرن العشرين، لتنخلق دكتاتوريات quot;مخزيةquot; باسم الدين، لتتعامل مع الإختلاف والمساءلة، بالسجن والاعتقال والتعديب؟ وهل ستحتاج هذه القيادات الجديدة لقدرات متميزة من اللاسلكي البيولوجي؟
quot;أشي جو شيquot;، عبارة مشهورة باليابان، وتعني بأن كل لقاء إنساني هو لحظة عمر فريدة للتواصل الإنساني ولن تتكرر، ويجب الاستفادة منها في خلق الترابط الاجتماعي، وبأفضل طريقة ممكنة، وبدون أخطاء. هذه الفلسفة تؤكد على أهمية تطوير قدرات التواصل الإنساني، وبرزت في الديانة البوذية-الزن، ومرتبطة بتقاليد حفلة الشاي اليابانية. وحفلة الشاي اليابانية تقليد قديم وله فلسفة معينة ومرتبط بقيم إنسانية فاضلة، وينتج عنه ترابط إنساني فريد، ويخلق تناغم مجتمعي جميل. فقد أهتم المجتمع الياباني ومنذ نشؤه بالتواصل الإنساني بين البشر، وأعتبره عامل هام لاستمرارية البقاء، والتعامل مع قسوة الطبيعية، وتحديات الحياة المعيشية، لتوفير راحة الإنسان. فقد كان العمل المجتمعي المشترك صفة أساسية لعملية الإنتاج الزراعي في اليابان، كما نقل حديثا للصناعة.
ويكون التواصل في المجتمع الياباني ليس فقط بين الإنسان مع أخيه الإنسان، بل أيضا مع الأشكال المختلفة من الطبيعة: الحيوانات، والنباتات، والجبال، والوديان، والأشجار، والزهور. فالشخصية اليابانية تقدس كلما خلقه الخالق، جل شأنه، من مكونات خلقه، فتلاحظ مدى رقة التعامل مع الحيوانات، ورعاية الحدائق، وإتقان فن تقليم الأشجار، وترتيب الزهور، والاستمتاع بجمال الطبيعة، من جبال، ووديان، وانهار. كما يهتم المجتمع الياباني بالتواصل الإنساني مع الطفل منذ ولادته، فيؤخذ للمعبد للاحتفال بولادته، ويربى على حب الطبيعة وما فيها، ويتعلم الكثير عن أخلاقيات التعامل وآداب التواصل الاجتماعي في مراكز رعاية الرضع، ومراكز الحضانة، الموجهة والمراقبة من قبل وزارة التربية والتعليم والتكنولوجيا. ويدرب الطفل الياباني منذ صغره على خلق دائرة اتصال مجتمعية، وتتسع هذه الدائرة كلما تدرج من صف إلى صف، ومن مرحلة إلى مرحلة. ويستمر الطالب في التعرف على زملاء وأصدقاء جدد، ويحافظ على التواصل معهم، وتزداد عدد هذه الدوائر من الزملاء والأصدقاء مع تقدم العمر، ويحاول الياباني المحافظة على هذا التواصل طوال حياته، حتى ولو ببطاقات جميلة في الأفراح، أو زيارات حزينة في الوفيات.
ويعتبر اليابانيون التواصل المجتمعي كنز اجتماعي ثمين، ويبدءا بمقابلة تبادل بطاقات شخصية، وهي رمز الرباط الإنساني الدائم، ومع إنتهاء الدراسة الجامعية، وبدء العمل، يكون للمواطن الياباني كنز من الأصدقاء، يكونون صلة الوصل بينه وبين المؤسسات الحكومية، والشركات، والمصانع. ومن صفات الشخصية اليابانية الكرم والإخلاص، وعدم الخلط بين اجتماعيات العمل، والصداقات الخاصة والعائلية. وللمحافظة على التعامل الإنساني، واحترام الآخرين، والمحافظة على التناغم في عمل الفريق، تكون عملية صنع القرار في اليابان عملية دقيقة، وتأخذ وقت طويلا ولكن تكون النتيجة رأي فريق متجانس ومتناغم، تسهل عملية التنفيذ وتساهم في إنجاحه. وتتصف الاجتماعات بدقة الوقت، وقلة الكلام، والنقاش. فالياباني مستمع جيد، وينصت بدقة، وقد يغمض عينه للتركيز، كما ان المناقشة الحادة شبه معدومة في الاجتماعات، فالانفعال والغضب يدخل صاحبه جهنم في اليابان. ويحضر الياباني أجندة الاجتماع بدقة، بعد دراسة متفحصة ودقيقة لتفاصيل ودقائق الأمور، ويبدأ صنع القرار من القاعدة حتى القمة، وإذا قررت القيادة إجراء تغيرات جديدة على القرار ترجعه مرة ثانية للقواعد لتدرسه من جديد، ولذلك يأخذ إصدار القرار وقتا طويلا، بينما يكون التنفيذ سهلا وسلسا، وملتزما بأخلاقيات العمل، ودقة الوقت المقرر.
ونستنتج من كل ذلك بأن الرباط الاجتماعي قوي في اليابان، وملتزم بأخلاقيات وقيم مجتمعية راسخة، ليس فقط بين البشر، بل أيضا مع الحيوانات والطبيعة، مما أدى ذلك لتناغم جميل بين الإنسان وما حوله، ليصبح المواطن الياباني متزن، وسلس خلوق في التعامل مع الدولة والشعب، مما أدى لخلق مجتمع مترابط متناغم ومنتج. والسؤال ما هو السر وراء هذا التوازن الإجتماعي الياباني؟ وهل من الممكن أن يستفيد العرب منه لبناء مجتمعهم في القرن الحادي والعشرين بعد انتفاضة ما سمي quot;بالربيع العربيquot;؟
يصف الدكتور دانيال جوليمان في كتابه quot;الّذكاء الاجتماعيquot; التواصل والترابط المجتمعي باللاسلكي البيولوجي، ويعتقد بأنه نوع من الذكاء البشري، ينمو ويتطور مع غناء تجربة التواصل الإجتماعي، ويحتاج للاهتمام به في مرحلة الطفولة لتنميته من خلال البرامج التربوية التعليمية، ويعتبر نوع مهم من الذكاء، لبناء مجتمعات متحاورة ومترابطة ومسالمة ومستقرة، لتحقق نموها الاقتصادي والاجتماعي. ولكي نتفهم هذا النوع من الذكاء، لنفترض بان العقل البشري مركز الي مكون من شبكة معقدة من تريليونات الكومبيوترات، وبهذا المركز جهاز مسح الكتروني يحتوي على رادار يلتقط جميع الإشارات والتحركات التي تجري من حوله ويرسلها إلى جهاز خاص يحللها ويصنفها ويوزعها على الكومبيوترات الأخرى كل حسب اختصاصه. وتقوم كل وحدة وظيفية من الكومبيوترات، بإصدار القرارات بعد أن تتدارسه مع الكومبيوترات المسئولة عن التفكير والذكاء الذهني، ومع الوحدات المسئولة عن الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي.
وفي الحقيقة، يتكون العقل البشري من نصفين متوازيين ومتشابهين، فالمخ الأيمن مسئول عن النصف الأيسر من الجسم والمخ الأيسر مسئول عن النصف الأيمن من الجسم. ويتكون المخ من خلايا عصبية بها شبكات تواصل معقدة، تمتد لباقي الجسم من خلال الحبل العصبي الشوكي الذي يتفرع منه أعصاب تتوزع على جميع أجزاء الجسم. وتعتبر من أهم وظائف المخ هي جمع الإحساسات من ألأعضاء المسئولة عن الحواس: اللمس والشم والنظر والسمع والتذوق، بالإضافة للحاستين السادسة والسابعة. وتعتبر الحاسة السادسة نوع من التواصل اللاسلكي بن الإنسان مع أخيه الإنسان، وهي حاسة مهمة جدا في الترابط البشري، ومرتبطة بالذكاء الاجتماعي. وتقوم هذه الحواس بجمع المعطيات التي تدور حولنا أو التي نجمعها بالدراسة والبحث، وإرسالها إلى مراكز عصبية مختلفة في العقل البشري. وتتكون هذه المراكز من عدة خلايا عصبية مختلفة المسؤوليات، فبعضها مسئول عن تحليل المعلومات الحسية، وتوجيهها لمراكز أخرى، بالإضافة لمراكز التقاط لاسلكية تحلل ما يجري من إحساسات في عقول الآخرين. وتحتوي المراكز العصبية اللاسلكية على خلايا تسمى بالخلايا المغزلية، وهي تلتقط المعلومات بسرعة فائقة، وتنقلها للمراكز المتخصصة، كما أن هناك الخلايا المرآتية التي تعمل كالرادار تنظم العمل بينها وبين الخلايا في الأشخاص الآخرين. وسميت بهذا الاسم لتشابهه وضيفتها مع عمل المرآة حيث تنقل صورة العقول، فهي تنقل الأحاسيس من عقل إنسان إلى إنسان أخر.
كما تقوم الخلايا المرآتية بمراقبة وتحليل ما يجري في عقول الآخرين، قبل أن تظهر بأعراض معينة في الوجه، كتقلص عضلات ألوجهه مع الابتسامة أو الغضب. فما يحتويه عقل الإنسان من شعور وأحاسيس سلبية أو ايجابية نحو الشخص الأخر تكون بارزة ومستقبلة لاسلكيا قبل أن يظهرها بمظاهر الابتسامة أو الحزن، وحتى لو حاول أن يتظاهر العكس فقد يكون حزينا أو غاضبا فيبتسم، وتظهر الابتسامة على ألوجهه ولكن الخلايا العصبية المرآتية تلتقط ما في داخل المخ من أحساسات وليس ما هو بارز على الوجهة، ويتميز بعض الأشخاص بتدريب هذه الحاسة وتقويتها بالخبرة والتدريب. كما أن هناك جهاز متخصص ينظم ويبرمج عملية الالتقاط اللاسلكي هذه، يسمى quot;بالميجدالاquot; وهو جهاز الإنذار المبكر، ويقع في وسط المخيين. كما أن هناك عملية quot;اللدنة العصبيةquot; المرتبطة بالخبرة المتراكمة من التعامل والتواصل الاجتماعي، وتؤثر على الخلايا اللاسلكية، فتكبر حجمها وتزيد من عددها وتحسن وظائفها، وتنمو شبكة الاتصالات فيها وتزداد سرعتها وتحسن تناسق عملها، ليؤكد ذلك بأن الذكاء الاجتماعي يمكن تطويره وإنمائه بتدريب الطفل وتعليمه وإعطاءه الفرصة لبناء شخصيته وتحمل المسؤولية والتعامل مع مشاكله الشخصية بدون تدخل الوالدين. فتدخل الوالدين ومحاولة حل المشاكل يفقد الطفل نمو خبرته في التعامل مع مشاكل المجتمع ومشاكل الحياة، ويؤخر ويضعف نمو ذكائه الاجتماعي، ويقلل عدد هذه الخلايا ويصغر حجمها. ويعتمد نجاح علاقاتنا الاجتماعية- العلاقة بن الأبناء والآباء، والعلاقة بين الزوج والزوجة، والعلاقة بين الموظف ومسئوله، وعلاقة المواطن بوطنه وحكومته وشعبه، على مدى نمو وتطور الذكاء الاجتماعي. وهو ذكاء هام لخلق مجتمع متوازن، يحترم أفراده بعضهم البعض، ويتقبلون ويتحملون اختلاف بعضهم عن البعض الأخر، ويتعاونون كمواطنين بين أبناء الشعب وقادته وحكومته، ويكونون قوة إنتاجية متراصة. وطبعا هذا النوع مهم جدا للقيادات السياسية في وطننا العربي وخاصة بعد التفاءل الكبير بما سمي quot;بالربيع العربي.quot;
. ويوصف الأستاذ جوليمان التواصل الاجتماعي بتراقص بالية بين عقل وأخر يرسل أشارات لاسلكية ويستقبلها بتناسق دقيق. كما يترافق هذا التواصل والتفاعل الاجتماعي بين البشر بتغيرات متعددة تنتج عنها إفراز مواد كيماويه، تسمى بالهرمونات، وهي تنظم كل عضو من أعضاء الجسم، من القلب إلى الجهاز الهضمي وحتى جهاز المناعة. فحينما يكون هناك تواصل إنساني جميل تنقل فرحة الشخص وابتسامته من خلال الجهاز البيولوجي ألاسلكي إلى العقل الأخر فتبرز السعادة والأحاسيس الجميلة. وهذا الإحساس يؤدي لإفراز خلايا المخ مواد كيماوية تقوم بتنشيط خلايا الجسم المختلفة، فمثلا، تنشط نقي العظم لإنتاج أعداد كبيرة من كريات الدم البيضاء، وتقوي وظيفتها، فيزداد انقسامها وتكاثرها، ويرتفع عددها ويطول عمرها الافتراضي، وينمو حجمها، وتتطور وظائفها. وكما تعلم عزيزي القارئ بأن الكريات البيضاء مسئولة عن حماية الجسم من الأمراض والمكروبات، فتنتج المواد التي تقضي على الجراثيم، كما تقوم بالتهام الجراثيم والقضاء عليها. والعكس صحيح حينما نقابل شخصا عابسا أو غاضبا تنتقل الصورة العابسة إلى عقولنا، فنتضايق ونحزن، فينتج الجسم هرمونات تؤثر أثر السم على كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، فتضعف خلاياه وتقلل انقسامه وتقرب شيخوختها.
ويناقش الأستاذ جوليمان في كتابه أيضا أهمية الذكاء الاجتماعي في دقة الانطباع الأولي عن الأشخاص، وقوة الشخصية لدي بعض القيادين، وسهولة تعرف البعض على كذب الوجه. كما يلعب التفاعل الاجتماعي مع الآخرين دورا مهما في تنمية العقل وترتيبه، فالخبرة الاجتماعية تنحت عقولنا، وتغير شكل وحجم وعدد الخلايا العصبية، والشبكة الموصلة. فالتواصل الجميل بين الزوج والزوجة مثلا تشكل شبكات التواصل في المخ وتغذية بتطوير الذكاء الاجتماعي، وبالعكس العلاقات السيئة الطويلة الأمد قد تضعف شبكات التواصل وتؤدي إلى ضمورها مع الوقت وسوء وظائفها. ونؤكد هذه الاكتشافات الجديدة بان العلاقات الاجتماعية تترك اثر بارز في الذهن الإنساني وتوجهه ذكاءه الاجتماعي، وتنعكس على تطور ونمو الذكاء العاطفي، والذكاء الذهني، فالسعادة والتعاسة معدية تنتقل انتقالا لاسلكي من شخص إلى أخر.
ويطرح الأستاذ جوليمان فكرة هامة أخرى، وهي أن كومبيوتر المخ مرتبط ببرنامج تشغلي يعتمد على القيم والأخلاقيات الإنسانية. وحينما يتعارض السلوك الإنساني مع هذا البرنامج التشغيلي الأخلاقي، فمثلا بسلوك لا أخلاقيا، يبدءا المخ يعاني ويجهد وتظهر أعراض الاضطراب والإجهاد، وتنتهي بفقد التوازن بن العقل والذهن والضمير والجسم. ويؤدي ذلك إلى إفراز كمية كبيرة من مواد كيماوية تسمم الجسم وتسرع من قصور عمل الخلايا وتلفها. وقد ينتهي الإنسان بإمراض القرحة والضغط والكولسترول، والسرطان، ومعها السكتة القلبية والشلل النصفي الدماغي. مما يسرع شيخوخة الخلايا وقصر عمر الإنسان. ولنتذكر بأن المصدر الرئيسي لمادة الكولسترول هو الطعام، ولكن في حالة الضغوط النفسية والمشدات أللأخلاقية بين السلوك والضمير تزداد كمية بعض الهرمونات المصنعة للكولسترول الداخلي، والذي يترسب في الأنابيب الناقلة للدم، الشرايين، فتنسد. ومثلا حينما تنسد شرايين عضلة القلب، يصاب الإنسان بالجلطة مما يؤدي لتموت جزءا من عضلة القلب. أو قد تنسد شرايين المخ فيصاب الشخص بالشلل الدماغي النصفي.ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات