أمر بديع أن تقابل بشرًا مختلفين، بشرًا يحملون تعابير جديدة، وأرواحا جديدة، ويحلمون بآفاق جديدة.
للبلدان الصغيرة، المنثورة كحبات العقد على الخارطة الأوروبية، مذاقات خاصة، مع الكثير من رائحة النبيذ المعتق. وعلى صغر حجمها، ومحدوديّة سكانها، وتاريخها الحافل بالمعاناة، إلا أنها تتبارى في إثبات تميّزها، وسعيها الحثيث من أجل النمو والمعرفة والإسهام في عملية التقدم الإنساني. عندما تحط في ليتوانيا أو لاتفيا أو إستونيا، في الشمال القصي، أو في موناكو، أو سلوفينا، وبلجيكا في الجنوب... فأنت تشاهد أقوامًا على درجة من التمايز والتميّز، والاختلاف الذي لا يحتاج إلى عمق في الملاحظة. ثم ترى تلك الأناقة التي تحترم الأحجام الصغيرة، وترى قوتها في قزميّتها الحجمية.
هذه المرة، وبعد استقبال العام الجديد، أخطرنا صديق عزيز أننا مدعوون إلى لاتفيا، مع بشارة أن تكون هذه الدعوة حجّا وبيع سُبَح. فامتطينا صهوات الجو مرورًا خفافًا على برشلونة، وناديها الرياضي المفتون به جلّ شبان الأعاريب. قال مارتن اللاتفي: أنا لن أمرّ على برشلونة، وأمّنت على ذلك زوجته (لقد مررنا بتجربة سرقة سخيفة). إذًا إلى ريغا عاصمة لاتفيا، ذات مساحة 64559 كم وسكان لا يصلون إلى المليونين، عند استثناء العمال في الخارج. المطار صغير، الشعب صغير، أما الوجوه فأملح من مليحة.
قلت لمارتن: أريد أن أمتص هذه المدينة الأقل من 800 ألف إنسان. قهقه مارتن، وقهقه معه جسده الضخم. قال: حاولها غيرك، وذهبوا وبقيت لاتفيا بأقاليمها. أنظر من النافذة، لترى آثار الأقوام من الغزاة، تركوا آثارهم وذهبوا. هنا الألمان الذين نقلوا إلى بلادنا المسيحية، بفرعيها الكاثوليكي واللوثري. وهناك البولنديون والسويديون، الذين خلفوا قصة حب ترددها الأجيال، وهنا الروس الذين احتلوا بلادنا مئتي سنة منذ القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين. تدخلت جولييت، وهي حسناء يستعد الحسن لمغادرتها لكن ذكاءها اللمّاح ومعلوماتها عن بلادها مقيمان: عمرنا 800 عام كله حروب وغزاة. ومن هنا، ترى أننا على صغر حجمنا نعجّ بالأساطير، الرامزة للجنس، والحب، والوله، والعشق، والخلاص. لستم وحدكم أهل الجنوب، والشرق، تملكون خصوبة الخيال، وسعة المخيلة.
انتهى الحوار على لقاء.
***
قال مارتن: آه... وجدتها. إنها وزيرة الثقافة لمدة ثلاث سنوات، ستكون خير من تتكلم معك وتكتشف لاتفيا.
هل قلتَ الوزيرة؟ صدح صوت في أعماقي. quot;الوزراء لدينا لا يستقبلون أحدًا. فكيف يشرحون للغرباء؟ إنهم مشغولون بلبس البشوت وأناقة البدل، وتدبير مستقبلهم وأولادهمquot;. ثم استنشقت الهواء، وربما تمضمضت... (بس هم على حق!) و... خمد الصوت.
حسناً إذًا، لندبر سيارة للذهاب إليها، كما أحتاج إلى بدلة أنيقة. هل لديكم محلّ للملابس، أرجو أن تكون الصناعة لاتفية؟ تعبت من لبس الماركات... أصبحت مملة. إنني سأقابل سيدة، ووزيرة. قال مارتن: وأزيدك من الشعر بيتا (والله قالها أما الترجمة فعلى الذمة التي تزداد اتساعا)! كانت وزيرة للتنمية وللحكم المحلي وعضوًا في حزب الائتلاف الوطني... والآن رئيسة الغرفة التجارية... إذن هي أصولية؟ (الصوت في داخلي. لا غير! معظم الكبراء ورجال الأعمال لدى قبائل بني صامت يتسولون اللحويين. وهي لديها كل المواهب لتكون كما هم).
قال مارتن: إنها ستأتي إليك. إلي... أنا؟ استيقظت الشهامة النائمة... من باب التقدير قلت، أرسل إليها سيارة.
مارتن: لا لا إنها ستأتي ماشية! لكن ترجو أن تأتيك في المقهى جانب الأوتيل. اسم المقهى كراج، ملاصق لفندقك برغز. (آه... فاهمتني غلط معالي الوزيرة، تقدم البطاقة وتطلع فوق!) كدت أقولها لولا إنه عاجلني بطعنة. لا، إن معها كلبا، وفندقك لا يبيح دخول الكلاب.
لنلتقي الثانية عشرة.
***
Zaneta Janyzeme Grand
سيدة دخلت مع كلب تتأبطه... اكتشفت أنها آنسة عمرها سبعة أشهر. ما زالت رضيعة، يعني أقل من سبع سنوات مما نعد، من أعمارنا.
إنني سعيد بلقائك معالي الوزيرة. لم اتوقع أن تتجشمي هذا العناء وملاقاتي يوم أحد ممكن قضاؤه مع عائلتك، انني ممتن لهذا التكريم.
بالعكس هذا واجبي... آه... نعم شكرًا. سأشرب كأسا أبيض من العنب. لكن قل لي من أنت؟ ولماذا أتيت إلى هنا؟
اللعنة!
وزير يستقبلك وهو لا يعرفك؟ وما تبتغي؟ ابتغي؟ جل أن يُسمى كما قال عمنا الكوفي.
الكلبة بدأت تمارس دورها في التعرف والشمشمة ما منحني التنفس. ذهب خيالي إلى معالي المسؤولين في بلاد بني صامت وما في داخلها من مدن ملح وقرايا وحصاني... تذكرت... كيف يبدأون جرابيع صغيرة... تحمل دكتوراه مزيفة، ومعروضة للبيع، تذكرت انهم لا يأتون إلى العباد الذين يمشون على الأرض لكنهم يتزلفون كالذباب على الموائد المخضرة. قبل لقائها بليلة رأيت السيد المالكي رئيس العراق وحاكمها يستعرض جيشه... كالهر يحاكي اختيالا مشية الأسد.
ضحكت... لم أرد. خشيت أن أكشف لها سوأتي.
***
استقلت من الوزارة بعدما أمضيت فيها سنوات، لأسباب صحية.
لم اسألها بالطبع، فليس من شيم أهل الفسطاط الآخر أن يسألوا الناس عن أديانهم، أو أعمارهم، أو حالاتهم أو أوضاعهم الزوجية، أو دخولهم المالية.
أكملت: أصبحت مهتمة بالثقافة والفن، لا شيء أروع، أن تكون مهتمًا بالإنسانيات. عملت ما في وسعي للقيام بواجبي نحو الثقافة. نحن بلد صغير، لكنه يكتنز العديد من التجارب والمحن. عليك أن تذهب إلى المتحف لترى بنفسك ما مرّ على شعبنا من محن. نحن نؤدي دورًا محوريا، وإن كان شعبنا صغيرا بعدد سكانه فهو كبير بتجاربه.
آه... ريتشارد فاغنر كم أحببته. لقد تخصصت فيه. مرّ في بلادنا مع زوجته، وخدم فيها، لكنه هرب. أكرمناه، وضعنا اسمه على شارع في العاصمة ونحن نتذكره كما نتذكر فرانز ليست وبقية النوابغ. وأخذنا الحديث حول الفن والثقافة وأوروبا بتشعباتها، وأحوالها، ولم ننس الحديث عن النفط، ولم لا ووالدها أحد مكتشفي نفط بحر الشمال... ابني يدرس في اسكتلندا، كما جده، أبي.
***
لست على معرفة بالعرب. زرت إسرائيل، لم تعجبني حالة التطرف فيها، وزرت مصر، ولا أعرف العالم العربي. كل ما أعرفه أن العرب يأتون إلى لاتفيا من أجل بناتنا الجميلات. هل هذا صحيح؟
سيدتي الوزيرة: ربما... وهذا مدعاة للفخر! أما أنا، فلست في حاجة إلى السفر، إنهن ينتشرن في لندن كالفراشات.
ودعت معالي الوزيرة، ولم يكن بودي أن أودع ريغا.
التعليقات