يسألني الزميل الأثير المثير، سلطان القحطاني، لو خيرت بين أن أكون موسيقياً، أو صحافياً، فما الذي سوف أختار؟

سؤال وجيه كوجاهة مستقبل صاحبه.

الإجابة: بالطبع لا احلم أن أكون موسيقياً. الموسيقيون يخلقون توارثاً تحت ظلال الأشجار، وبين خرير المياه، وفوق هامات، ومرتفعات الجبال، وجيرة الشتاء. كل ما أحلم به هو أن أكون متابعاً للموسيقي، بشرط واحد فقط، وهو أن تبدا الحياة معي، أوائل القرن الثامن عشر، وسيكون جميلاً لو أنها تمتد حتى القرن الواحد والعشرين، أو فبما بعد.

لنفترض انك فعلاً حزمت حقائب السفر إلى ألمانيا، quot;لايبزغquot;، لتصيغ السمع إلى باخ Bach .

سيكون باخ - أب الباخات الخمسة- سعيدا بوجودك، وأنت ترتقي معه إلى الأعمدة العليا، حتي تفاجأه بالسؤال: quot;كيف تدعو ربك اللوثري، كل يوم، كي يموت أحد في القرية، وتُطلب للعزف ؟quot;.

ستغادر هذا الموسيقي الوحيد الذي لم يغادر منطقته، حتي مات، بينما موسيقاه تسافر معنا حتي تنقلها مركبة فضاء أميركية، لتقول للعالم، الذي لا نعرفه: ها نحن سكان الأرض أحياء في أرضنا نرزق.

لاحظ سيدي انهم لم يحملوا أي كتاب معهم، أسود، أو أزرق، أو أبيض، أو رمادياً، أو احمر، أو أخضر. أمر مثيرٌ للذهول أنهم لم يحملوا الكتاب الأخضر، بل quot;سي ديquot; صغير، قذفوه في أحشاء الكون، فغاص عميقاً، عميقا، وعميقا حتى حين.

ما رايك يا صديقي أن تأخذ حصاناً، لأنك لا تستطيع أن تركب جملاً بالطبع. لحظتها أنت في حاجة إلى حصان، ومن ثم مركباً صغيراً لتحط عربتك في bond st في لندن، وتلتقي وجها لوجه مع quot;جورج هاندلquot; George F Handel.

آه كم هو جميل ذلك العملاق ! ولأننا في منتهي السرعة فما زلنا نهيم في لندن، ونتنفسها، ولا حرج أن تسمع في رحلة نهرية، تلك السمفونية النافذة للآذن، مهما اتسعت أو ضاقت، water Music .

لنخرج سريعا من لندن. قبل أن يموت quot;هاندلquot;، كان إشعاعاً يختلس أذن، وأحاسيس البشرية، لتسطع أنواره في فسيح الآفاق، بينما كان لحظتها quot;موزارتquot; يولد في النمسا. لاشك أنه الأغلى، والأحلى، والأنفس، والأجمل، والألذ. لم يطل مقامه. استجاب لنصيحة أبي العلا المعري، فمر على الدنيا كما الهواء حفيفاً. كن معه حتى يمر، فلقد مر، كما فعل بعده شوبارت، ماندلسون، شوبان... كلهم لم يتحدوا حاجز الأربعين ! فعليك يا فتى أن تقفز هذا الحاجز البغيض ، وبعدها لا تخف، ولا تحزن.

إن عشتُ كما أتمنى، فسأكون مع العباقرة الباقين، أمرّ بهم واحدا، واحد. أراهم أحياء، أحياء، كما هم الآن، والى ما بعد الآن، والحديث طويل، مديد، عميق .

نسيت القول، أو أردت نسيانه، حتى الأخير:أيهما أتمنى أن أكون؟

بالطبع سأغادر شيبي quot;موجع القلب باكياquot;، كما تخيل عمك، أبو محسّد، المتنبي. سأتمنى أن أكون موسيقياً. ليس لأن الموسيقى نبل، وتفوق، وتهذيب، ورقي بالعقل، والقلب، والروح معاً. ليس لإنها الإنتاج الإنساني الفريد، مثله مثل الفن، والرقص، والمسرح، الذي يتجاوز شواطئ، وبحار، الإنسان، وفضاءاته، وعوالمه، الصغيرة، إلى آماد ارحب، واعلى، وأغلى. ليس لا نها لا تعترف بالقيود، والحدود، والسدود، التي تحيط بمنسم عقل الإنسان، وتتحكم في قلبه، وغرائزه .

وما أنكى يا صديقي، بل وما أقسى، إنني كلما قرأت، ونقبت في تاريخ الموسيقيين الكلاسيكيين منذ أواخر القرن السابع عشر حتى الآن: من برس مع أستاذه، أو خطابات باخ إلى زميله هاندل، أو المناجاة الصوفية بين موزارت، وأستاذه هايدن، أو حتى التقدير المفتعل من بيتهوفن لأستاذه - رغما عنه ndash; هايدن، أو الحب الإلهي بين برامز، وكلارا، وزوجها شومان، وجدت العجب العجاب، أما الوفاء فحدث ولا حرج، والجوانب الخيرة، والإنسانية فأمرها طويل.

دعني أذكرك بما فعله الفتي اليهودي الجميل، ماندلسون، لباخ بعد أن كاد يُنسى. أو الأمير المجري الأجمل فرانز ليستمر لبيتهوفن، أو الرقي بين التشيكي دوفجاك، وكل من مالر، وبرامز، والقائمة تبدأ، ولا تنتهي.

لا أريد أن أطيل عليك، أو أن أتحدث لك عن أفعال الخير لهاندل، بل أصمت عندما ترى كيف يتعامل الصحافي المتوسطي مع أستاذه، أو زميله، أو صديقه، أو منافسه .

اللهم لا شماته، ولا استغابه، ولا نميمة، ولا كتابة تقرير. نعم كتابة تقرير يدخل السجن، أو يؤدي إلى الإعدام المعنوي، وكل من فوق رأسه بطحا فليتحسسها.

عمت خوخاً، وقمحاً، و...عنباً.

* منقول من صحفة إيلاف على فايسبوك

http://www.facebook.com/note.php?note_id=198570720166044