الاستقالة... الاستقالة سيدي الرئيس
عثمان العمير
عثمان العمير في لقائه اليتيم مع بن علي في العام 1987
عليَّ الاعتراف أنَّ رياح تونس هزتني، جددت شبابي المهني. صرت أفكّر بصورة مختلفة، وأتصرف مع استقبال الأحداث، والتعامل معها، بطريقة نسيتها من قبل. علينا الاعتراف أنَّ هذا الحدث يهز الآن كراسي الطغاة، ومصاصي دماء البشر، قاتلي الفرحة في الشعوب، وسارقي حاضرها ومستقبلها، ممن حاصرونا، من الشرق هولاكو، وفي الغرب قيصر!

بل أن الحدث يهز كل من حاول بيع التغيير بطريقة مقلوبة، ممَّن سمموا أفكار شبابنا بصراعات دينية ومذهبية، من دون أن يركزوا على أن قضيَّة الإنسان لدينا هي الاقتصاد... الاقتصاد، ثم الاقتصاد!
فليس لشعب أن يكون منتجًا، فاعلًا، ومدركًا، وهو يتضور حاجًة وجوعًا وإملاقًا. حدث تونس أسقط في طريقه ما أسقط، وما سيسقط من العنتريات، المقاومات الفارغة، الأصوليات المتحجرة، الصراعات مع الأشباح، وتحويل الشعوب عن آمالها وأحلامها، وحقائق الحياة فيها.

بعد تونس، لن تكون هناك كراسي حكم مختطفة، ولا شعوب مصادرة، ولا شعارات مسروقة.
لم تغب تونس عن تاريخ المنطقة، ولن يغيب تأثيرها الأكبر، الذي خلقه المجاهد الأكبر، وسيبقى، وهي الدولة الأولى التي تسن دستورًا في المنطقة.

الرئيس الجديد لتونس وزملاؤه، مطالبون أن يعيدوا لتونس وهجها، عُنفوانها، حيويَّتها، وناسها الذين يتميَّزون عن شعوب المنطقة بكل مؤهلات التغيُّر والتغيير.
وما كان أجلى وأجمل وأشرف، بل وأكرم وأروع وأكمل، لو أن السيد زين العابدين بن علي، بعد إلقائه خطابه التاريخي، دخل غرفته، وأطلق الرصاص على نفسه، لو فعلها لجنّب شعبه مصاريف الطائرة التي هرب بها.
لكن quot;ثقافة الانتحارquot; مثل quot;ثقافة الاستقالةquot; التي أشرت إليها من قبل، غير موجودة في قاموس الشعوب الساكنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
صدام حسين فرّ هاربًا إلى الحفرة، وقبله عبد الكريم قاسم ألقي القبض عليه رعديدًا، بينما اكتشفنا أنَّ انتحار الجنرال محمد أوفقير، والمشير عبد الحكيم عامر، كان نحرًا لا إنتحارًا. أما انتحارات المسؤولين السوريين في السنوات السابقة، فلم نعلم عنها شيئًا حتى الآن.
المسؤول لدينا لا ينتحر، لا يستقيل، لا يخطئ، لا يعتذر، كأنه quot;ابن أمنا السماءquot; المغسول بالثلج والبَرَد والعسل، والشارب حليب السباع، حتى يرى نهايته، فيصبح كصفير الصافر.
الإنتحار للشجعان، كما المبارزة كما الاعتراف بالخطأ.

* * *

ليلة مع الرئيس الهارب

.. سألت الإمام محمد البدر (المتوفى سنة 1996)، آخر ملوك اليمن، وليته لم يكن، عندما زرته في بيته في quot;برومليquot; في مقاطعة quot;كِنتquot; جنوب لندن، أثناء حوار طويل نشر في quot;تضامنquot; الزميل فؤاد مطر:
- صاحب الجلالة، هل نمت ليلة هروبك، وهل حلمت؟
كان جلالته شخصًا لطيفًا طيبًا، أتيته في بيته المتواضع في الريف الإنكليزي، لا يعلم ما حوله من العظماء الذين غيروا التاريخ، ومفاهيم الإنسان، لعل أبرزهم تشارلز داروين. أنظر الفرق بين تشارلز داروين وجاره اليمني الطيب.
- أجاب جلالته: حلمت بوالدي!

أود الآن لو أنني مع الرئيس، سابقًا، بن علي، فأطرح عليه السؤال ذاته. سأبادر للإجابة عنه، فأنا في نيويورك، بينما هو - أثناء كتابة هذه السطور - يحوم في الأجواء. أتخيل أنَّ الرئيس السابق بن علي سيقول: فكرت بالرئيس الذي لم أحترم سنَّه ومقامه، فانقلبت عليه، وحاصرت بيته بالشرطة والمخبرين. حلمت بمحمد مزالي، مثقف تونس، وموظفها، ووزيرها الأوَّل، وقد أجبرته أن يهرب منها بثياب امرأة. حلمت بالشيخ الجليل الذي حطمت حياته، بتزوير فيلم جنسي عنه وترويجه. فكرت بشعب حيوي، متعلم، مؤدب، وذكيّ، حولتُه إلى جائع يتنكب طرق الحياة.
سأقول له: سيدي الرئيس، ألم تحلم بالصحافي الذي قابلك في الأسبوع الثاني من انقلابك؟! ليس لأنَّه مهم، لكن لأنَّه هو الآخر عانى منك كثيرًا، إذ حولت الجريدة التي كان يمثلها هو إلى عدو لتونس، وحرمته من رؤية بلد تتجلى سماؤه، وبحاره وصحاريه، بطبيعة جذابة، وبشر أكثر جاذبيَّة.
إن ذاك الصحافي، أيها الرئيس السابق - إذ كنت رئيسًا حتى قبل ساعات - ما زال صحافيًا، ما زال يكتب، ويقرأ، ويصارع، والزعماء حوله صرعى، وما هم بصرعى ولكن عذاب الله شديد!

وكما يقول شاعرنا الجواهري:

والمجد أن يحميك مجدك وحده

في الناس لا شُرَطٌ ولا أنصار

الصحافي يا فخامة الرئيس الذي لم يعد رئيسًا، له ذاكرة كالجمل، لا ينسى من أساء إليه، وزرع طريقه بالأسلاك الشائكة.
أتذكر أيها السيد، الذي لم يعد سيدًا، أنَّك أجبرت ذلك الصحافي عبر ضغطك وإلحاحك على ملك عربي كريم، أن يعتذر عن خبر صحيح، إكرامًا لأخيك المتهم.
أتذكر أيُّها الرئيس، الذي لم يعد رئيسًا، كيف ضغطت لإنهاء الحياة المهنية لصحافي تونسي من ألمع المراسلين وأكثرهم كفاءة، وكيف أنَّ الجانب الآخر تحداك، وتحدى صلف أجهزتك!

لن أزيد، فلست متشفيًا. لكنه التحذير لآخرين لا يزالون يعاملون الصحافة بغطرسة، وبأدوات القهر. همومك الآن أيُّها الرئيس (الذي لم يعد رئيسًا) أكبر من التذكر.
يكفيك أنك، وزملاء آخرين، يرتعدون الآن على كراسيهم.

لكم أيُّها الرعاديد بوابة التاريخ التي لا تخون عابريها.
وعند عبور البوابة ثمة رائحة لا تسرّ!