من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد أدت انتفاضة عولمة القرن الحادي والعشرين لطوفان تغيرات عربية، من ثورة ليبية دموية، إلى انتفاضة مصرية شعبية ثائرة، وحتى إصلاحات مغربية حكيمة هادئة. وقد ألهبت هذه الانتفاضة شعلة إصلاحية بحرينية، ليطالب شبابها بإصلاحات اقتصادية جذرية، لتحقيق مستقبل زاهر، بإنتاجية عمل مبدعة. وفي خضم هذه الإنتفاضة الإصلاحية خرجت علينا فئة متطرفة quot;شاذةquot; تطالب بقلب نظام الحكم الملكي الدستوري، وإستبداله بجمهورية دكتاتورية quot;طاغوتية.quot; وحينما طرحت مبادرة بسبع نقاط لإسراع الإصلاحات الاقتصادية والسياسية أصرت على الرفض، لتحقق غايتها بانهيار الحوارات الإصلاحية. وبعد عام من الاضطرابات، برزت علينا فئة تطالب بحوار غير مشروط، بعد ما انسحبت من الحكومة والبرلمان، وهي نفس الفئة التي قاطعت الانتخابات من قبل، بحجة أن الدستور غير مكتمل.
ونحتاج هنا عزيزي القارئ لطرح الأسئلة التالية: لماذا تسرعت هذه الفئة في رفض الدستور وتجنب المشاركة في الانتخابات وانسحبت من البرلمان في فترة حرجة من تاريخ وطنها السياسي؟ ألم تؤكد دراسة التاريخ بأن المواقف السياسية السلبية تعيق التطور الطبيعي للمجتمع؟ ألم تحقق اليابان حداثتها قبل الحرب العالمية الثانية بدستور الإمبراطور ميجي الذي قسم البرلمان للمجلسين: مجلس نواب منتحب ومجلس نبلاء معين من جلالة ألإمبراطور؟ ألم تحقق اليابان معجزتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بعد الحرب، بدستور وضعه أٌثنين من عساكر الجنرال الأمريكي ماكارثر والذي يختلف جوهره تماما عن الثقافة اليابانية في التناغم المجتمعي وعمل الفريق؟
وليسمح لي عزيزي القارئ بمجموعة أخرى من ألأسئلة: ألم تلعب الأحزاب المذهبية دورا خطرا في نشر الطائفية ومزق نسيج التناغم المجتمعي في مجتمعاتنا العربية؟ وهل حان الوقت لوقفة تفكير حكيمة هادئة لمراجعة أخطاء الماضي والعمل على بناء مستقبل الأجيال ألقادمة بدل تدميرها؟ وهل سيراجع خطباء المنابر سلبيات خبراتهم السياسية السابقة ليتفرغوا لنشر الأخلاقيات الإنسانية مع التأكيد على قدسية الوقت والعمل المنتج؟ ألم يحن الوقت لحث الشباب على التعامل مع تحديات حياتهم ببرغماتية مبدعة بدل هدر حياتهم في نظريات وأحلام كاذبة؟ ألم تتحول الألفية الثالثة لزمن تخصص ينبذ فيها إفتاء خطباء المنابر في كل كبيرة وصغيرة من تحديات العولمة الدنيوية؟ ألم يثبت تاريخ الشرق الأوسط بأن السلطة الدينية المطلقة لولاية الفقيه تفسد مطلقا؟ وهل حان الوقت لوقف دغدغة عواطف الشباب في مجتمعاتنا باستغلال قضية الاحتلال الصهيوني لاستمرارية القبضة الدكتاتورية quot;المخزيةquot; على السلطة؟ وهل ستحتاج مجتمعاتنا العربية، بعد ما سمي بالربيع العربي، لطريقة تفكير مبتكرة للتعامل مع تحديات العولمة للألفية الثالثة؟
لنحاول أن نتدارس التجربة اليابانية فقد تساعدنا للتعامل مع التحديات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية اليوم. فيذكرني وضعنا العربي بدخول جيش الاتحاد السوفيتي أبان انتهاء الحرب العالمية الثانية لأربع جزر في شمال اليابان. حيث يعتبر الشعب الياباني بأن هذه جزر يابانية مقدسة، ومع ذلك درس الشعب الياباني هذه المعضلة، ووجد بأن الحل ليس في حلها، بل الحل في تجميد حلها. فقبل بالأمر الواقع فحافظ على البلاد موحدة وتفرغ للتنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي. وحينما أصبحت اليابان ثاني أكبر قوة أقتصادية عالمية بدأت الحوار، وبشكل سلمي، لاسترجاع الجزر الأربع. وسنحاول ربط هذه المعضلة مع التفكير وحكمة القرار في التعامل مع المعضلات. فالنكبة كانت المعضلة العربية الكبرى والحروب المدمرة التي واجهناها هي الحلول التي توصلنا لها لحل المشكلة، والتفرق والتمزق والعنف والتخلف، وظاهرة ما يسمى بالإرهاب العالمي، التي نعيشها اليوم هو نتيجة الحلول التي نفذناها، فلماذا لم نتوقع هذه النتائج؟ ولماذا لم يستقري التفكير العربي هذه النهاية؟ فلنتدارس معا مشكلة التفكير وملازمته للذكاء والإدراك وحل المعضلات بعد ما سمي بانتفاضات الربيع العربي.
كتب البروفسور أدوارد ديبونو، أستاذ العلوم الذهنية والتفكير والذكاء بجامعتي كمبريج وهارفرد، في كتابه، تعليم طريقة التفكير، يقول: quot;تعليم تطوير عملية التفكير هي من أصعب الأشياء المحرجة للمناقشة...ودائما يترافق مع مناقشتها الامتعاض والاستياء وأحيانا الغضب، ويعطي الشعور للآخرين بأن تفكيرهم ليس كما يجب، بل الأسوأ قد يتصور البعض بأنك تحاول أن تظهر بأن تفكيرك أفضل منهم. والصعوبة الأخرى هي أن التفكير مترافق عادة مع الغرور وأنا الذات، فانتقاد تفكير شخص ما يعتبر تهديدا له وينبه غروره وأنا الذات بداخله... وتترافق كلمة التفكير بمخيلتنا بالنظر والسمع والتكلم والمشي والتنفس، فلا أحد يتصور بأنه يحتاج لتعلم ممارسة هذه الحواس.quot; فمع أن مناقشة التفكير محرجة وقد تضايق الآخرين ولكن تطور المجتمع يعتمد على كيف يفكر شعبة لأن نتيجة التفكير قرارات هامة وقد تكون مصيرية.
ويقترح البروفسور طريقة جديدة للتفكير، سماها بالتفكير المتوازي، ويعرفها بقوله: quot;التفكير المتوازي هو تعبير عن التغير عن الطريقة التقليدية للنظر للأشياء ودراستها وتخطيط مستقبلها...وهذا مرتبط بالإدراك وهي الطريقة البصرية والنفسية التي ينظر بها العقل البشري للوقائع التي أمامه.. والتفكير المتوازي هو التفكير المنتج والمبدع التنفيذي الذي يدرس المعطيات وينظم المعلومات ويربطها بالخبرات السابقة ليخطط الاحتمالات ويتعامل مع المعضلات العلمية والاقتصادية والسياسية.quot; فقد نحتاج لتطوير مهارات التفكير في الأطفال لألا يكون تفكيرا لحكم مسبق ومطلق بل يكون نتيجة لمعطيات مدروسة يستطيع الذهن من خلالها أن يجري عملية التفكير بتجرد، وذلك بالتحكم على العاطفة والسيطرة على جاذبية التقاليد والعادات والروابط الاجتماعية. وهنا يلعب الذكاء الذهني والعاطفي والاجتماعي والروحي دورا هاما، ويؤكد البروفيسور أهمية تدريب العقل للنظر للمعطيات الواقعية بدون تأثير خلفيات سابقة لنستطيع أن نصدر قرارا موضوعيا ومنتجا. كما يبرز البروفيسور التحديات الجديدة للسلطة فيقول: quot;في المجتمعات التقليدية كانت التغيرات بطيئة والاستفادة من الخبرات المتكررة كافية للتعويض عن التفكير ويحكم النظام السياسي قلة من النخبة التي كانت تفكر للجماعة. ومع تطور المجتمع والتقدم السريع في التكنولوجية والتغيرات المستمرة المرافقة لها أصبحت هناك معضلات يومية متكررة تحتاج لقرارات صائبة فردية وتعتمد على طريقة تفكير سليمة لحل هذه المعضلات. وأصبح التعلم والتدريب في طريقة التفكير أساسي.quot;
فنلاحظ بأن التقدم التكنولوجي الذي حول العالم لقرية صغيرة، فرض علينا تحمل مسؤولية جديدة وهي مسؤولية التفكير لإصدار قرارات صائبة تخص العمل أو السياسات المجتمعية والتي لا يمكن اليوم الاعتماد على الآخرين لإصدارها. ولنتذكر أن التصويت في الانتخابات هو من أهم قرارات المواطن في أية أمه، فمصير الأمة ومستقبلها ومستقبل أجيالها القادمة تعتمد على كفاءة النواب الذين سيديرون دفة البلاد في البرلمان. فأما يكونوا بمستوى الثقة الشعبية والمسؤولية الفردية فيطوروا القوانين والأنظمة ويراقبوا ويحاسبوا تنفيذها بدقة، وأما أن يكونوا عصاه دكتاتورية في عجلة التنمية والتطور وصخرة معرقلة لمسيرة تنفيذ المشروعات التنموية الطموحة.
ويعلق البروفسور على أنانية القرار فيقول: quot;والمشكلة في المجتمعات المتطورة أنها تعتمد كثيرا على القرارات والضغوط السياسية والتفكير الفردي. وحينما يكون هذا التفكير متوجها نحو المصالح الشخصية والمستقبلية القريبة، تتداخل في المجتمع صراعات قوى لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، لذلك نحتاج لتدريب طريقة تفكيرنا لتغير مفاهيم الجشع وكبح جماح أنانية النفس.quot; ويطرح البروفسور مشكلة نقذ البعض للتفكير المتأني المدروس لإصدار القرارات فيقول: quot;قد يناقش البعض بأن التفكير الذهني يعقد ألأمور وقد يمهد الرد الانفعالي الآني والمباشر للحل المباشر والسريع. وينتج هذا التصور من الاعتقاد بأن التفكير هو الطريقة لحل الألغاز لا لدراسة المعضلات بطريقة أفضل لإيجاد الحلول المناسبة، وبالعكس التفكير السليم يجب أن يكون الوسيلة لتبسيط الأمور لإمكانية فهمها لا لتعقيدها، فمن السهل إن تقرر حينما تعتقد أن هناك حل وحيد للمعضلة، ولكن من الصعب أن تقرر لو كانت هناك احتمالات متعددة.quot;
ويناقش البروفسور تعليم التفكير فيقول، quot;ولتطوير تعلم طريقة التفكير يحتاج الإنسان لمهارات أساسية وخلفية من المعلومات المختلفة ومهارات مهنية متخصصة كاللغة والرياضيات ومهارات التعامل الاجتماعية والتحكم العاطفي. ومن الضروري أيضا تفهم واقع المجتمع بالمعرفة الدقيقة لكيفية عمل مؤسساتها المختلفة، ومع الأسف نحن ندرس اللغة والرياضيات والاجتماعيات ولكن فقط لفضولية التعلم لا للتدريب للاستفادة العملية منها للتعامل مع المعضلات الحياتية. وبطريقة تفكير سليمة سنجمع وسنصنف الخبرات والمعلومات في عقولنا وسنستفيد منها لإصدار قرارات حكيمة.quot; وهنا نحتاج لتحديث التعليم المدرسي لكي نحول المعطيات التي نجمعها إلى معلومات مصنفة في الذاكرة وتحويلها لمعرفة نستفيد منها في التعامل مع المعضلات الحياتية. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين باليابان