من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد تجنبت دائما الرد على تعليقات ألقراء منذ بداية خبرتي في ألكتابة، حيث اعتقدت بأنه من حق الكاتب والقارئ أبداء الرأي بحرية وبدون أية إحراج، وخاصة بعد أن سهلت التكنولوجية الإلكترونية فلسفة الحوار على شبكات الإنترنت، ولكن سأخالف اليوم هذه القاعدة بعد أن استلمت تعليقيين متناقضين من قارئين عزيزين وكريمين، ووجدتهما مادة جميلة لمقال اليوم. فقد علق الأخ وسام حسن على مقال، حكمة التفكير والربيع ألعربي، في الرابع عشر من أبريل لعام 2012 بقوله: quot;مشرط جراح واستئصال الخلل، الافكار الوارده فى المقال أراها مشرط جراح ماهر، اكتشف خلل التفكير الجماعى لدى معظم المجتمعات المتخلفة، وخاصة ألعربية، ومن جهة أخرى، يجد القارئ فى هذا المقال الاجابة الوافية للتساؤل المزمن عندنا، وهو كيف تمكنت اليابان من النهوض السريع بعد هزيمتها القاسية فى الحرب لتكون ضمن أهم دول العالم تقدماً وحضارة. مقال رائع، يستحق أن يدرج فى وسائل التربيه فى مناهج التعليم فى بلداننا العربية. مع التحية الخالصة والشكر الجزيل للكاتب ألفاضل.quot;
كما كتب الأخ الفاضل الشاب أحمد تعليق يقول فيه: quot;وزير وسفير، بالأمس كنت وزير، واليوم اصبحت سفير، وغدا ً ستنال وسام أعلى، لكونك انتقدت الربيع ألعربي، وتطاولت على ثوار و احرار ألبحرين، فمقالك عسل، لكنه مدسوس بالسم، اي شخص يتابع تلك المقالات سينبهر بما جاء في مقدماتها وفي مضامينها، و لكنها قائمه على اساس باطل، والباطل لا يعلى انما الحق يبقى و يخلد، ولنا لقاء.quot; ليسمح لي الأخ الفاضل أحمد أن أضيف له معلومة جديدة وهي بأني قد حصلت على وسام الدرجة الأولى لمملكة البحرين في عام 2004 على الخطة الصحية الوقائية لمملكة البحرين حينما كنت وزيرا للصحة.
ولنبدأ حوارنا مع الأخ الفاضل أحمد بالأسئلة التالية: هل ما يسمى بالربيع ألعربي، هل هو فعلا ربيع عربي؟ أليس تعبير الربيع العربي لانتفاضات القرن الحادي والعشرين هو تعبير انفعالي، عاطفيي، متسرع؟ ألم تعتبر بداية ثورة مصر في الخمسينيات ربيع عربي؟ ألم يسمى إنقلاب معمر القذافي في الستينات بربيع الثوار؟ ألم يتحول إنقلاب حافظ الأسد على رفاقه إلى ريبع عربي؟ ألم تكن ثورة أبو رقيبة ربيعا؟ ألم يصرخ الجميع في بداية الثورة الإيرانية بأنها ربيعا؟
وليسمح لي الأخ أحمد بأسئلة أخرى: هل ما سميتهم بثوار وأحرار البحرين معصومون عن الخطأ، ومحرم علينا مناقشة أفكارهم؟ أليست الديمقراطية التي تطالب بها تعتمد على تحاور الأفكار مع حق الإختلاف؟ ألم يؤكد فولتير بأنه بقدر ما يطالب بحرية التعبير عن رأيه مستعد لأن يضحي بحياته لكي يعبر الآخرون عن أرائهم بحرية؟ وما هو الباطل في رأيكم الكريم؟ وما هو الحق الخالد؟ أليس تعبير الباطل تعبير مطلق، لا يمكن الخلاف عليه، ومرتبط بأمور الآخرة الدينية، فمثلا الوضوء باطل بعد التبول، والصيام باطل بعد تناول الطعام، فلا خلاف على ذلك بعد فتوى رجال الدين الأفاضل على ذلك، وهو مجال إختصاصهم الذي سهروا الليلي لإتقانه؟ أليست الأمور الحياتية قضايا نسبية معرضة للخلاف والحوار؟ وما هو الحق؟ أليست كلمة الحق مشتقة من كلمة الحقيقة؟ وما هي الحقيقة التي نتحدث عنها؟ ومن يملكها؟ هل أمورنا الحياتية هي قضايا نسبية أم حقائق مطلقة؟ وهل تعلم أستاذ أحمد بأن فلسفة التفكير هي أحد العلوم المهمة في القرن الحادي والعشرين؟ وهل تعرف بأنه بالتعليم والتدريب يمكن تطوير طريقة التفكير والتي تعتمد على شبكات معقدة من شبكات الالياف والخلايا العصبية والخلايا المرأة اللاسلكية والتي يمكن استمرار تطويرها في مختلف مراحل العمر البشري؟
ليسمح لي الأستاذ احمد أن أذكره بعبارة في المقال الذي ناقشه، لأستاذ علوم التفكير بجامعة هارفرد، البروفيسور إدوارد ديبونو حيث قال: quot;المشكلة هي أن تعليم تطوير عملية التفكير هي من أصعب الأشياء المحرجة للمناقشة...ودائما يترافق مع مناقشتها الامتعاض والاستياء وأحيانا الغضب، ويعطي الشعور للآخرين بأن تفكيرهم ليس كما يجب، بل الأسوأ قد يتصور البعض بأنك تحاول أن تظهر بأن تفكيرك أفضل منهم. والصعوبة الأخرى هي أن التفكير مترافق عادة مع الغرور وأنا الذات، فانتقاد تفكير شخص ما يعتبر تهديدا له وينبه غروره وأنا الذات بداخله... وتترافق كلمة التفكير بمخيلتنا بالنظر والسمع والتكلم والمشي والتنفس، فلا أحد يتصور بأنه يحتاج لتعلم ممارسة هذه الحواس.quot; فمع أن مناقشة التفكير محرجة وقد تضايق الآخرين ولكن تطور المجتمع يعتمد على كيف يفكر شعبة لأن نتيجة التفكير قرارات هامة وقد تكون مصيرية، وخاصة في المجتمعات الديمقراطية التي تختار نواب برلماناتها، لتحدد مستقبل أنظمتها وتطورها.
والمشكلة أن طريقة تفكيرنا لم تهيئ للتعامل مع التغير، لذلك نحن في حاجة للتفكير المتوازي لننتقل من صناديق الإحكام المسبقة لتفكير الاحتمالات الكثيرة والمتوازية، تفكير إيجابي يدرس ماذا يمكن أن يكون، لا ما هو كائن ألآن. quot;فالتفكير المتوازي يهتم بالتصميم والاختراع بينما ينحصر التفكير التقليدي بالاكتشاف والبحث. التفكير التقليدي يعتمد على إحكام متحجرة آنية (نعم/لا، صح/خطاء، حق/باطل)، التفكير المتوازي يتقبل احتمالات بدون أحكام مسبقة. التفكير التقليدي يهتم بالمنطق المتحجر الذي تترسب فيه الأفكار بعضها على البعض كطبقات متكلسة، لا يمكن تحريكها بسلاسة. بينما يهتم التفكير المتوازي بالمنطق المائي، كموجات الماء تتحرك بسلاسة متغيرة تحرك أفكارها حين تحتاج الاستفادة منها... التفكير التقليدي يضع الانقسام والإنكار ليفرض الاختيار، التفكير المتوازي يتقبل الإطراف المتناقضة ليكتشف الاحتمالات. التفكير التقليدي يعتقد بأن المعلومة حقيقة كافية، بينما يبحث التفكير المتوازي من خلال المعلومة عن الابتكار والإبداع. التفكير التقليدي يؤمن بأنك حينما تزيل الأشياء السيئة تبقى الروائع، التفكير المتوازي يعمل ليصمم الروائع. التفكير التقليدي يستعمل الجدل المتناقض والتفنيد للاكتشاف، التفكير المتوازي يستعمل التقارب والتعاون.quot;
فتصور يا أستاذ احمد لو قبلنا بالأطراف المتناقضة، وبحثنا عن ابتكار الافكار، وصممنا الروائع، واستعملنا التقارب والتعاون للتعامل مع المعضلات المختلفة، وأبتعدنا عن الإصرار على حل المعضلات المستعصية، بل لو تجاوزناها وأكملنا طريقنا للأمام، الم نحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة؟ أليس من الغرابة أن نستمر في الاعتقاد بان تحليل المشكلة يكفي لحلها، وبأن كل مشكلة لها حل؟ اليس من الأفضل بأن نحاول التعامل مع المعضلات الحياتية بدل حلها؟ أليس تجميد المعضلة طريقة عقلانية لمعالجة المشكلة في بعض الأحيان، حتى تخف عواطف إنفعالاتها؟
ولنتذكر الأخ أحمد حوار البروفيسور دي بونو حيث قال: quot;قد حاولت التجارب البشرية في القرن العشرين تطبيق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع، فقد كانت هذه الأفكار كافية لإزالة شاه إيران، والرئيس ماركوس في الفلبين، والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا، والشيوعية في الاتحاد السوفيتي ... فنحن قادرون للعمل ضد شيء نعتقد بأنه خطئ ... ومعظم الثورات عملت ضد شيء معين تعتقد بخطئه ... ولكن ماذا حدث بعد ذلك، فوضى وقد تحول الوضع لأسوء من قبل ... لذلك يجب أن نطور التفكير التنفيذي البناء.quot; وهنا قد تتكرر نفس المأساة بعد ما سمي بالربيع العربي، بانتشار الفوضى، وتدهور الاقتصاد، وهروب الاستثمارات الأجنبية، وانخفاض سعر العملة، وتناقص نسب السواح. فمع الأسف الشديد تعليمنا في الوطن العربي يدرب على الوقوف ضد الأشياء وإنتقادها، فنحن منتقدون بارعون، ونستطيع أن نثور ضد شيء ما وندمره، ولكن لدينا العجز وكل العجز في أصلاح الشيء وتطوير بناءه، فالمعارضة والهدم بإنتفاضة وثورة وإنقلاب سهل، ولكن يحتاج البناء لكثير من المهارات الذهنية والخبرات الحياتية، وحكمة التصرف. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان