عاصفة التحريم التي أثارها الشيخ يوسف القرضاوي تجاه الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية، بسبب زيارته للمسجد الأقصى، أعادتني الى نهايات السبعينيات، حين تجمعت أقطار العروبة، وحلّت في ضيافة حكومة البعث في بغداد، لتعلن إبعاد مصر عن جامعة العرب، ذلك لأن الرئيس الراحل أنور السادات زار القدس، ولأن العرب كانوا حينذاك ممانعين، ومقاومين بالكلمات الكبيرة، وعلى رأسهم حافظ الأسد الذي كان قد أعلن احتلال الجولان في العام 1967 قبل أن تصلها القوات الإسرائيلية بساعات طويلة.
السادات بوقفته التاريخية في العام 1977، أحرج عتاة الصهاينة من أمثال موشي دايان وبيغن وشامير وغولدا مئير، تحدّاهم بمنطق السلام الذي لا يعرفونه، وعلى الرغم من كل ما قيل عنه من نقد وإساءات، فإن ما قاله بوجه الإسرائيليين، لم يجرؤ عليه أحد من نظرائه الذين كانوا يهربون من مواجهة ممثلي إسرائيل في المحافل الدولية، معتصمين بسلاح الرفض الذي لا يملكون غيره، فماذا قال السادات في برلمان الدولة العدوّة في القدس؟
quot; .. إن كنتم قد وجدتم المبرر القانوني والأخلاقي لإقامة وطن قومي على أرض لم تكن كلها لكم، فأولى بكم أن تتفهموا إصرار الشعب الفلسطيني على إقامة دولته في وطنه .. quot; وذكّرهم بوعد بلفور قائلاًquot; quot; أنتم على بيّنة من الحقائق جيداً quot;.
وأكد لهم، وهم صامتون مذهولون من المفاجأة، أن لا طائل من وراء عدم الإعتراف بحق الفلسطينيين بالعودة، وقال quot; ... منذ السادس عشر من أكتوبر من العام 1973 أعلنت الدعوة الى مؤتمر دولي لتقرير السلام العادل والدائم، ولم أكن في حالة استجداء للسلام، أو طلب إيقاف إطلاق النار.. quot; ونبههم الى ان لا سعادة لهم بشقاء غيرهم، وإن ما كانوا يروجون له من أن العرب لن يستفيقوا، وأنهم كجثة هامدة، لم يعد صالحاً في عالم يؤكد على ضرورة السلام، وبعد أن نجحت مصر في هدم جدار استغرق بناؤه أعواماً طوال.
قصدت من الرجوع الى كلمات السادات، أن ألفت الإنتباه الى أن سياسته كانت الوحيدة التي آلت الى استرجاع أراض عربية محتلة كما قصدت التذكير بخطورة الشعارات البائدة، وسلطتها على الكثير من العقول الشابّة، التي ما زالت أسيرة فقهاء ودعاة لا ينظرون إلا لمصالحهم ومنافعهم الدنيوية. والشيخ القرضاوي كما نعلم، مولع بالفتوى، على اختلاف مواضيعها، ولكثرة ما أفتى، تولدت لديه قناعة بأن الخروج على رأيه بمثابة الخروج على إجماع علماء الأمة، وعلى صحيح الدين، فعلى الرغم من تكييفه لتحريم زيارة القدس على المسلمين، بأنه من باب سدّ الذرائع، أي اجتهاد محض، فهو يقول عن التحريم بأنه quot; فريضة يوجبها الدينquot; ويزيد بقوله quot; أصدرت من قبل فتوى بتحريم زيارة القدس، .. وما كنت أحب أن يخرج الشيخ علي جمعة.. عن هذا الرأي، الذي يكاد يكون إجماعاً بين علماء الأمة الإسلامية في عصرنا هذا ..quot; . ومن غريب رأي القرضاوي، اعتقاده بأن زيارة المسلمين للقدس، تعد quot; تهديداً لمجتمعاتنا الإسلامية، بنشر الفساد والرذيلة والإباحية..quot;، وكأن الدكتور جمعة لم يذهب لزيارة المسجد الأقصى، ولم يزر القدس بدعوى من مؤسسة آل البيت الأردنية، بوصفه أحد أمناء مؤسسة الإمام الغزالي، وإنما لبى دعوة من الموساد الإسرائيلي، ونسي الشيخ القرضاوي إنه يحمل جنسية دولة عربية، هي الأكثر تطبيعاً للعلاقة مع إسرائيل،وهي الأكثر حماساً للمشروع الإقتصادي الإسرائيلي، كما نسي إن قناة الجزيرة التي روجت لفتاويه وفكره، هي القناة العربية الوحيدة التي استقبلت الزعيم الصهيوني، شيمون بيريز، قبل سنوات، وبحفاوة لا مثيل لها.
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قد دعا العرب والمسلمين الى زيارة القدس، والإسهام في التصدي لسياسة تهويدها، عبر التأكيد للعالم بأنها مازالت محط أنظارهم واهتمامهم الفعلي وتواصلهم. وقد ذكّرتني دعوته بمحاضرة كان قد ألقاها النائب الفلسطيني السابق في الكنيست الإسرائيلي، الدكتور عزمي بشارة، في ندوة عقدتها مجلة النور في لندن، فقد استعرض تاريخياً، حال العرب الفلسطينيين في إسرائيل (أراضي 48)، منتقداً المسلك العربي بإهمالهم، وتركهم لسياسة طاردة، تتنكر لمواطنتهم في بلدهم، دون أي عون، وماكان أمامهم سوى الإنصات لإذاعة صوت العرب، التي كانت تصور لهم، نفاقاً بأن النصر قريب. كما تذكرت أيضاً كيف كانت الأنظمة العربية، تقيم الدنيا، على أحد مواطنيها، لو أنه صافح إسرائيلياً في الخارج، حتى لو كان من فلسطينيي أراضي الثمانية وأربعين، بدعوى المقاطعة المزعومة.
إن فتوى القرضاوي لها جانبين، سياسي وديني، وقد تولت وزارة الأوقاف الفلسطينية، الرد عليه سياسياً، عبر موقعها، بالسؤال التالي : quot;هل أدت المقاطعة العربية لإسرائيل الى شيئ؟ وهل تغير الفتوى من واقع الإحتلال؟ quot; ويشير الرد إلى حقيقة أن القدس أصبحت مستوطنة إسرائيلية، وإن quot; فتوى القرضاوي تخدم برنامج التهويد والأسرلة، لعزل القدس عن محيطها العربي،.. إن إسرائيل تحبذ مثل هذه الفتاوى quot; ، ويضيف تصريح الأوقاف، بأن quot; حضّ المسلمين على الإنقطاع عن المسجد الأقصى، يعتبر خطأً استراتيجي، سيما إذا ما تقاطع مع الإستراتيجية الإسرائيلية..quot;. أما من الناحية الدينية، فإن استشهاد الشيخ القرضاوي بموقف الخليفة عثمان بن عفّان، فيما ينقل عنه أنه رفض دعوة القرشيين له، بالطواف حول الكعبة، قائلاً : quot;ما كنت أفعل حتى يطوف رسول الله quot;، حسب الرواية، فمردود عليه من خلال سيرة الرسول (ص) الذي كان عازما على زيارة مكة، وهي تحت سلطة المشركين، ولولا أنهم منعوه، لكان أنفذها، ولما توقف عند الحديبية، وأبرم صلحاً مع قادة قريش. كما إن الحديث النبوي الذي يتفق عليه المسلمون، والذي دعا الى شدّ الرحال الى المسجد الأقصى، لم يتضمن شرطاً بأن تكون البلاد التي تضمّه خالية من الإحتلال. إن القرضاوي يقول عن الزيارة أنها quot;حرام شرعاًquot; فمن أين جاء بالتحريم؟
الدكتور أحمد الطيب، الرجل العالم المتفقه، وشيخ الأزهر، يرى بعقلية تفصح عن شعور بالمسؤولية، إن زيارة القدس لا تخضع لمفهوم الحلال والحرام بل تخضع لقياس المصلحة العامة للمقدسيين، ولا يوجد ما يمنعها شرعاً، ما دامت تصب في صالح أهل المقدس. وهذا بالضبط ما يقوله معظم الفلسطينيين، وما أشارت له وزارة الأوقاف في السلطة الفلسطينية، بقولها : quot; إن فتوى القرضاوي تعكس حالة الخمول وانتظار القدر..quot; أي أنها لا تتوافق ومصلحة الشعب الفلسطيني، المحتاج دوماً لاهتمام العرب، فحين تخفق السياسات، لابد أن يتحرك المجتمع العربي للتواصل مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة، وإشعارهم بأنهم ليسوا وحدهم .
آخر المقال ليس بمسك، فقد طلع علينا النائب المصري، سيد عسكر، بتلاوة توصيات اللجنة الدينية في البرلمان الإخواني- السلفي، التي تدعو الدكتور جمعة إلى إعلان توبته، واعتذاره لشعب مصر، عن quot;ذنب الزيارةquot;، ومن ثم تقديم استقالته من منصبه!!!
هذا فضلاً عما قاله حسين إبراهيم، رئيس الكتلة البرلمانية، لحزب الحرية والعدالة، بأن quot; الثورة لم تصل الى المفتيquot;، فهل يا ترى وصلت الثورة الى الإخوان الذين قفزوا عليها، وأحبطوا شبابها، منذ أن شقّ الشيخ القرضاوي جموع الثائرين، واعتلى المنصة ليعلن بدء عهد الإخوان، وبدء العودة اإلى الماضي؟ لماذا على المفتي أن يعلن التوبة وهو لم يرتكب ذنباً، وليس على الإخوان والسلفيين أن يطلبوا العفو من ثوار مصر، لأنهم يتمتعون بإرث ليس لهم، إرث الشهداء الذين وهبوا أرواحهم لنجاح الثورة؟
- آخر تحديث :
التعليقات