خلال الحرب العراقية ndash; الإيرانية ( 1980-1988) راهنت الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفيتي السابق، ودول أخرى، على دور هذه الحرب في إضعاف النظام الإيراني، كما راهن حكام طهران على قدرتهم في استنزاف الجيش العراقي، تمهيدا لإسقاط صدام والإنتقام منه، وفي الوقت نفسه وجدت المعارضة العراقية آنذاك في هذه الحرب التي أشعلها نظام البعث، بداية لنهايته. وفي العام 1982 وبعد أن استرجعت إيران أراضيها المحتلة، طلب العراق من مجلس الأمن إصدار قرار بوقف إطلاق النار، لكن إيران رفضت واشترطت للقبول، إدانة النظام العراقي ومحاكمته لعدوانه عليها، وهذا ما كان مستحيلاً في ظروف التوافق الدولي المنعقد ضد إيران، فقد دعم الإتحاد السوفيتي موقف العراق، مستأنفاً صادراته من السلاح اليه، بعد فترة تعليق أعقبت بداية الحرب. خابت الرهانات ولم يتزحزح النظامان الغاشمان، ومرت ست سنوات أخرى حتى قبل الخميني بتجرع كأس السم، ووافق على إنهاء الحرب، فما الذي أجبره على ذلك؟ إنها بلا شك البوارج الأميركية والسوفيتية، التي جاءت الى الخليج لحماية ناقلاتها النفطية بعد أن أصبحت هدفاً للنيران الإيرانية، وكان من نتائج ذلك تورط سلاح البحرية الأميركية في مواجهة مسلحة مع قوات البحرية الإيرانية، وإسقاط طائرة مدنية لإيران، أثارت في حينها استنكاراً دولياً.
انتهت الحرب وصار على الطرفين أن يحسبا المكاسب والمآسي، وعلى ضفّتيها الداميتين وقف الحكام وهم أكثر قوة على شعبيهما، لكنهما أضعف في مواجهة العالم، فسلك كل منهما طريقاً مختلفاً لمعاجة ضعفه. خرج العراق فاقداً لاحتياطه النقدي ولهيبته العالمية، ومحملاً بديون ثقيلة لدول الخليج، وغيرها، لاقبل له بردها لعقود طويلة، وعلى الجانب الإنساني، بدا المواطن العراقي مترعاً بالحزن والإحباط، باحثاً عن النسيان، يتلمس طريقه لكسب قوت يومه، ولغرض تسكين الخواطر وإطفاء أي طموح مستقبلي، عمد رأس النظام إلى ابتداع quot;حملة أيمانيةquot; لإقناع الناس بطاعة ولي الأمر مهما فعل، وسحق تطلعاتهم بدعوى القناعة، وبالطبع فهم لم يقتنعوا بإيمان صدّام المرائي، لكنهم اتجهوا غير مختارين الى حصن الدين لينعموا بشيئ من الطمأنينة وسط غابة من عنف الدولة. وفي واقع الفقر الذي تفشى بعد نهاية الحرب، انكفأ معظم العراقيين على راحة إيمانهم، وسمح النظام لمرجعيات معينة بان تنشط وتستقطب ولاءهم، خدمة لأهدافه، ومازلنا لحد الآن نعيش إرث تلك المرجعيات، متمثلاً برموز مستحدثة لا يتوفر فيها أي تأهيل ديني أو إنساني، وهكذا سار الوضع في العراق، في ظل إيمان مبسط غير ذي مضمون معرفي بمبادئ الدين ومقاصده، الى جانب نقص فادح بوسائل التعليم، كمّاً ونوعاً. وفي خطوة لتجاوز حالة المحدودية والإهمال الدولي، عمد صدّام الى احتلال الكويت ونهبها للتعويض عن ضياع ثروات البلاد، ولتنبيه دول الغرب الى قدراته العسكرية، فكان ما كان من الخسائر المضاعفة، والعقوبات الدولية، ثم الإحتلال الأميركي، وتبعاته الكارثية.
أما في إيران فبحكم اتساع رقعتها، وتنوع مواردها، وكثرة سكانها، فقد كانت أقدر من العراق على استيعاب نتائج الحرب، على الرغم من عظم خسائرها البشرية والعسكرية، وتضامن الدول الكبرى ضد نظامها، فقد خرجت غير مدينة، يحكمها رجال دين يمثلون مؤسسات دينية قوية، الى جانب قلّة من المدنيين من ذوي الصلاحيات المحدودة. وهؤلاء على الرغم من كثرة الخلافات بينهم، وتعدد تياراتهم، كانوا يجيدون خدمة مصالحهم ويتجنبوا الدخول في أي حرب، مكرسين جهدهم لتقوية نظامهم، واستغلال مواطن الضعف في بلدان عربية وإسلامية، لمدّ نفوذهم، مستعينين برصيدهم الديني والمذهبي، مستفيدين من أخطاء السياسة الغربية في الشرق الأوسط بشكل عام. وهكذا وجدنا إيران بأموالها وقوتها، صاحبة كلمة أولى في كل من لبنان وسوريا وغزة، عبر حلفائها من سياسيين وقادة أحزاب، هذا فضلاً عن تأثيراتها الواضحة في دول الخليج.
نخلص مما تقدم إن أمامنا عراق مفكك ومهدد دوماً بالإرهاب وعودة البعث بصور شتّى، تعبث فيه أنانية حكامه وتدخلات جيرانه، عراق لم يجن من الإحتلال الأميركي غير التمزق وتأمير الأحزاب الإسلامية، ونظيرتها الأحزاب القومية الكردية، بينما تلعب إيران بأوراق قوية، السورية والعراقية والفلسطينية، فضلاً عن علاقاتها القوية بروسيا والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا، كما لا يخفى علينا تردد بعض الدول الأوروبية في توقيع العقوبات عليها، مراعاة لمصالح قديمة، ولا يبدو الملف النووي لإيران سابقا في الأهمية، إزاء ما لديها من أوراق اللعبة السياسية، فهذا الملف مهما أثير من ضجّة حوله، قابل للتفاوض، ومساحة المقايضة فيه شاسعة.
لذلك أقول إن مهمة الغرب في ترويض إيران وردّها الى حالة الإنكفاء المؤقت التي أعقبت حرب الثماني سنوات، ليست يسيرة وتستلزم صبراً طويلاً، ولا يمكن أن ننظر للتاريخ كحالة مستعادة، فاليوم غير الأمس، ففي العام 1988 كانت مصلحة الإتحاد السوفيتي متوافقة مع الغرب في تحجيم آيات الله في طهران وكفّ تأثيراتهم عن محيطهم الخليجي، ودائرة الجمهوريات الإسلامية السوفيتية، أما الآن فالأسطول الروسي يرابط في ساحل طرطوس السوري، دعماً لنظام بشار الأسد، الى جانب الدعم الإيراني، كما إن روسيا لن تغامر في استفزاز إيران القريبة من حدودها، ولن تضحي بمصالحها الإقتصادية معها، إرضاءً لأميركا، ووفقاً لذلك لن يكون من مصلحتها المشاركة في أي جهد عسكري أميركي أو أوروبي ضد إيران في منطقة الخليج، كما حصل في حرب البوارج التي كان لها فضل إنهاء الحرب العراقية الإيرانية. لقد بذلت القيادة الروسية ومنذ فترة طويلة جهوداً كبيرة لاستعادة مكانة بلادها الدولية، وقد وضحت نبرة القوة في حديث الرئيس الروسي دميتري مدفيديف مع الرئيس الأميركي أوباما، عندما قال له quot; إن تقييم أميركا للإنتخابات الروسية لا يهمناquot;، وكان بذلك يرد على انتقادات رسمية أميركية، طعنت بنزاهة الإنتخابات الروسية، كما قال مدفيديف بأن quot;روسيا بلد كبير وقوي ويتمتع بالسيادة، وإن بعض تصريحات الحكومة الأميركية، غير مقبولة ومثيرة للغضبquot;.
إن كثيراً من المراقبين يستبعدون مهاجمة الولايات المتحدة لإيران، أخذاً بالإعتبار خسائرها في حرب العراق، وخوفاً من تداعيات المواجهة على دول الخليج، كما تشير بعض التوقعات الى إن إيران هي الأخرى لن تغامر في إغلاق مضيق هرمز، والأمر لا يتعدى التهديدات، وتبدو مع هذه الصعوبة المتقابلة، إمكانات مواجهات محدودة بين قطع بحرية لكلا الطرفين، بما يضمن استمرار الظغوط لتحقيق تنازلات مهمة.
هنا أصل الى نهاية مقالي، راجية من بعض قرائي أن يتجنبوا القراءة المجتزأة في تعليقاتهم، كي لا يصلوا الى حكم خاطئ على كتاباتي . وأشير بالتقدير الى تعليق السيد عبد الستار عزيز على مقالي السابق عن مضيق هرمز، الذي أشار فيه إلى منطقية موقف الولايات المتحدة الأميركية الرافض لامتلاك إيران للسلاح النووي، بداعي مصالحها، وضماناً لأمن حليفتها إسرائيل، واستجابةً لظغوط اللوبي الصهيوني في أميركا، وانا لا أختلف معه في هذا، لكني لا أوافقه في قوله بأن بلداناً مثل الهند وباكستان وكوريا الشمالية، هي دول محجّمة وإنها إذا ما لجأت الى قوتها النووية، فإنها ستستعملها ضد جيرانها، السؤال هنا أليست كوريا الجنوبية حليفة للولايات المتحدة الأميركية، وإن جارتها الشمالية تتحدى أميركا، وهي حليفة للصين الدولة التي لا يمكن أن نعتبرها محجّمة أو معزولة وهي تحقق معدلات كبيرة في نموها الإقتصادي، وتستعد لشراء كثير من المشاريع الأوروبية التي تأثرت بأزمة الإتحاد الأوروبي، وتشير بعض التوقعات الى إن المستقبل سيكون للصين، في السيادة على العالم، هذا فقط عن المثال الكوري، أما الهند وباكستان فلهما حديث آخر لا مجال هنا للتفصيل فيه. وقد لفت انتباهي تعليق آخر على مقالي السابق، ينفي صاحبه مسؤولية الرئيس المصري الراحل عبد الناصر، في استفزاز إسرائيل، وبالتالي دوره في التسبب بهزيمة حزيران، وأنا أحيله الى ملف المعلق الشهير في إذاعة القاهرة، أحمد سعيد، وإلى خطب عبد الناصر نفسه، ليتأكد ويستمع الى التهديدات والوعيد المنصب على دولة شذّاذ الآفاق، بأن موعد رميها في البحر قد اقترب.