كثر الحديث في أدبيات ما بعد انتفاضة الشعب التونسي، عن ما سمي ب quot;الربيع العربيquot;، لكني لا أجد التسمية موفقة لاختلاف الحال بيننا وأوروبا الشرقية التي قطفت ثمار ربيعها الثاني في الثمانينيات، دون دماء، وإن كانت قد فقدت بزوال حكوماتها الاشتراكية نعماً معيشية كثيرة، إلاّ إنها فازت بإعلاء كلمة الفرد مقابل سطوة الجماعة، ممثلة بالأحزاب الشيوعية، وما يعنيه ذلك من تفجر طاقات الإبداع وتحديث المجتمع على أسس الإرادة الحرة. ربيعنا ليس كربيع الأوروبيين، فأرضنا قاحلة، وأمطارنا نادرة، ورمال صحارينا مازالت تغطي مساحات شاسعة من فكرنا ومعتقداتنا وأساليب تعاملاتنا اليومية، حتى لكأن زماننا قد توقف عند عتبة القرون الأولى لتطور البشرية، لا ينبغي العجب من هذه الكلمات، فالأعجب هو ما نراه في مصر على سبيل المثال، من تجمعات سلفية تطلق دعوات صاعقة للعودة بالناس الى عصور مظلمة، لا وجود فيها للنساء إلا وراء حجب وأستار عالية، ولا حق لعامة الشعب بأي قدر من حرية الرأي، وليس لجمال الحياة، وفنونها وآدابها أي معنى، والسلطة فيها مطلقة لمن يملكون الإجتهاد بتأسيس شريعة جديدة قائمة على الإكراه وإقصاء المخالفين في الرأي وتكفيرهم.
وفي تونس بشّر حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة، الشعب التونسي بأنه أمام quot;لحظة ربّانيةquot; وإن quot;الخلافة الراشدة السادسةquot; قد تحققت بالفوز الكبير لحزبه الإسلامي، فأي خلافة هذه وعلى أي مقاس سيجري تفصيلها؟ وهل يتصور بأن المجتمع التونسي يشابه المجتمعات الإسلامية الأولى في بساطة بنيتها السياسية واعتمادها على شخص الحاكم الواحد العادل مع هيئة مستشاريه، وهل يعتقد مثلاً بأن حزبه سيستلهم سيرة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز؟ ولكن هذا الرجل المنصف لم يكن براغماتيا يصرّح بما لا يعتقده، ويقدم وعوداً لمنافسيه بأن يجاريهم في نهج حداثتهم، بل قال كلمته بالقطيعة مع أسلافه من ملوك بني أميّة وسنن جورهم، وبدأ عهداً جديداً من الحكم الصالح. والغريب أن يتحدث السيد الجبالي عن الخلافة والفتح وتحرير القدس واللحظات الربّانية، وكلها مصطلحات واردة في أدبيات الإسلاميين، ودلالاتها معروفة، ثم ما أن تتوالى الإحتجاجات السياسية على خطابه، حتى يبرر حزبه قول quot;الخلافة الراشدةquot; بأن المقصود منه الحكم الرشيد.
في مصر تتسارع الأحداث بوتيرة تنذر بأشد الأخطار، بعد تنامي قوة والإخوان المسلمين، والتيارات السلفية واحتلالهما لميدان التحرير، في إعلان واضح لقدراتهما على تثوير الشارع، والدعوة لما يخططان له من الأستيلاء على الحكم وتطبيق رؤيتهما للشريعة. ولا اعتقد إن سبب التظاهر كما جرى تسويقه هو الوثيقة الدستورية وما تضمنته من مبادئ قد تمنح الجيش بعض الصلاحيات، وتلزم الطرف الذي يمكن أن يفوز بالانتخابات بمراعاة قواعد اللعبة الديمقراطية، وإنما هي الرغبة في استعراض القوة أمام المجلس العسكري، ولترهيب الأحزاب الأخرى وإشعارها بثانوية دورها. ولطالما تخوف كثيرون على مستقبل المجتمع المدني في مصر من هيمنة محتملة من قبل الإسلاميين، وكذلك ليس مستبعداً أن يكون المجلس العسكري والحكومة قد استشعرا زيادة خطرهم، فتوافقا على إعلان الوثيقة الدستورية، لاختبار ردة فعلهم، تمهيداً لتوجيه ضربة لهم، فتاريخ الحكم مع التيارات الإسلامية حافل بوقائع الغدر المتقابل، والإقصاء والإغتيال.
إن مأزق الحكم في مصر ما كان ليدخل هذا المسار المعقد لو إن المجلس العسكري تحلى بالشجاعة في تعامله مع الإخوان المسلمين، ولم يلجأ الى التنسيق معهم بشكل أساسي في وضع التعديلات الدستورية، وتعجيل الإستفتاء عليها قبل مضيّ ثلاثة أشهر على الثورة، وفي ظروف تضعضع البنية السياسية، وافتقار المواطنين الى الرؤية الصحيحة والزمن الكافي ليطلّعوا على محتوياتها ويتمكنوا من تحديد رأيهم فيها، في ذلك الوقت كان صوت الإخوان المسلمين هو الأعلى، وهم يحثّون المصريين على التصويت بنعم، ويزعمون إنه واجب شرعي، يضّيقون عليهم فسحة الخيار، وينثرون العطايا من أموال أثرياء عرب لشراء الأصوات الحائرة.
لقد أخطأ المجلس العسكري حين اعتقد بأن التقرب من الإخوان يضمن له بقاءً أطول وحكماً أسهل، وأخطأ أيضا في الرضوخ لهم في مطلب تعجيل الإنتخابات - إلا إذا كان بعض أعضائه إسلاميي الميول- وهاهو يحصد نتائج الإستعجال، وليس أمامه سوى المواجهة بحزم، ولا يبدو لحد الآن أنه قادر على الحسم، لأن ذلك يقتضي مزيداً من الضحايا، وإدخال البلاد في أزمات اقتصادية لا تحتملها. لقد صمت الإخوان طويلاً أثناء الثورة، وعاضد السلفيون نظام مبارك، ثم انقضّوا جميعا على ثورة الشباب وسخروا من أحزاب المعارضة التقليدية المفتقرة للدعم المالي، التي انهكتها عهود المصادرة السياسية منذ عهد عبد الناصر.
نعم فاز الإسلاميون في تونس والمتوقع أن ينجحوا في ليبيا ومصر، وسبق لهم أن أمسكوا بالحكم في العراق، والمخاوف قائمة من احتمالات وصولهم الى السلطة في سوريا إذا ما تقوّض حكم بشار الأسد، ولكن هل تم أو سيتم كل هذا بفعل خيار ديمقراطي حقيقي، هل هناك خيارات متعددة أمام الشعوب العربية؟ في حديث لرئيس الحكومة الجزائرية الأسبق سيد أحمد غزالي لفضائية الرشاد غير الرسمية، في أوائل هذا الشهر، تضمن في جانب منه مراجعة تاريخية لتجربته في السلطة أثناء الإنتخابات التشريعية في العام 1991، التي حملت جبهة الإنقاذ الإسلامية الى مركز الصدارة، قال ما معناه إنه لم يكن هناك مسار ديمقراطي حقيقي، وانما مسار انتخابي فحسب، لأن الشعب كان عليه أن يختار بين الحكومة، والإسلاميين، ولا بديل غيرهما، وأضاف بأنه كان مقتنعاً آنذاك بضرورة إيقاف المسار الإنتخابي، باعتبار إن حكم الإسلاميين هو الأسوأ، لكن مع مرور السنوات واستمرار تجاهل النظام لدور المجتمع في بناء البلد، وعدم استخلاصه لعبرة تصويت الأغلبية لجبهة الإنقاذ، فإن النظام - حسب رأيه - يبدو وكأنه أسوأ من الإسلاميين.
هناك بعض التشابه بين الحالة في الجزائر في مطلع التسعينيات، وما يجري الآن في مصر من صدام مرشح للتطور الأسوأ، بين العسكر والتيارات الإسلامية، في كلا البلدين كان التوجه الى الإنتخابات بحكم الإضطرار لإصلاح نظام فاسد، وليس لتوفر مقومات سياسية تكفل خيارات شعبية ناضجة وصحيحة، في الجزائر كان النظام في عهد الرئيس الراحل بو مدين فردياً، يتمتع ببعض الشعبية والتوجه الوطني، ويستند الى تراث ثوري ونزعة اشتراكية، لكنه انتهى بغيابه، دون أن يترك مؤسسات سياسية تتكفل الأخذ بيد البلاد في طريق التطور الديمقراطي، فكان من الطبيعي أن يتولى الجيش السلطة الحقيقية ويقيم نظاماً سياسياً بلا ملامح، ولكن بسطوة أقل توحي بشيئ قليل من التساهل مع النزعات المعارضة، في مثل هذه الأجواء التي تنعدم فيها الرقابة الشعبية عبر أحزاب قوية مؤثرة، تتوفر بيئة مثالية لنمو أشكال من الفساد، أخذت مداها الأوسع في سنوات الثمانينيات، وقادت الى تذمر قطاعات كبيرة من الشعب الجزائري، ثم الى سخط عارم وجد تعبيره السياسي في التصويت للإسلاميين، دون معرفة بحقيقة توجهاتهم.
وهذا ما حصل في مصر، فثورة يوليو- تموز في العام 1952، جاءت بالعسكر وألغت المسارات الأولى للديمقراطية، وحلّت الأحزاب التاريخية، لتقيم سلطة الفرد في شخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي أسس لدولة المخابرات، وبرحيله انتهت مرحلة حصل فيها الشعب على مكاسب اجتماعية كبيرة، بثمن باهض من حريته. وحين استلم السلطة أنور السادات لم يكن يمتلك تلك الجاذبية الثورية التي تمتع بها سلفه، لكنه أدخل البلاد في عهد جديد من السلام مع إسرائيل وتقويض مراكز القوى السابقة، لكنه أيضا كان مخلصاً لنفسه، محتكراً للقرار السياسي، انفتح على الغرب واقتصاد السوق المشوه، وأدار ظهره للتوجه الإشتراكي، وقد بدا له ان سلطته تدوم أكثر باستهدافه لليسار، وترك الحبل على الغارب للإسلاميين، فدفع حياته ثمناً لقصر نظره وبيدهم. ثم جاء مبارك وهو رجل بلا ملامح ولاقوة، فلا هو بالثوري القوميquot;الإشتراكيquot;، ولا هو حامل لمشروع سلام ترك بصماته الواضحة في السياسة العربية، فبدأ عهد الفساد الأكبر ودخلت مصر في دوّامة الفقر والمعاناة الأقسى في حياتها، وبهذا توفرت الفرصة للأسلاميين ليتمددوا في أريافها ومدنها ونقاباتها، ليستثمروا ما يصلهم من الدعم العربي السخّي، ليؤسسوا مشروع دولتهم quot;الإسلاميةquot;، وما أن سقط النظام حتى باتوا هم الأقوى في الشارع وبقية الأحزاب التقليدية المعارضة تحاول استنهاض أنصارها من حقبة التجميد الطويلة، والشباب الذين فجروا الثورة ضد نظام مبارك، حشودهم كبيرة لكنهم بلا تنظيم راسخ ولا دعم خارجي، فما العمل، إذاً لابد من سلطة الجيش.
والآن ما الذي يستطيع أن يفعله المجلس العسكري؟ هل يدخل في مواجهة دموية مع الإخوان والسلفيين، أم يؤجل الإنتخابات لدواع أمنية، ويستثمر الوقت في تحجيم الإسلاميين بطرق سياسية، الى جانب الحزم في التعامل مع أنشطتهم المتعددة؟ وحتى لا يتكرر السيناريو الدامي في جزائر التسعينيات لا مناص من التأجيل والعمل بأقصى الجدية لتوفير الخدمات للناس ومحاربة الفساد. أما إذا تقرر إجراء الإنتخابات في موعدها نهاية هذا الشهر، وصحّت التوقعات بفوز الإسلاميين، فلا مجال للوقوف أمام خيار الناس المنقوص، وعندها سيبدأوا بوضع شعارهم : quot; الإسلام هو الحلquot; موضع التطبيق، وسيدركون بأن الشعار لا يصلح إلا في صراخ المعارضة، وإن الإسلام الحقيقي يشير لهم باستعمال عقولهم والتدبر في أمور دنياهم وفق معطيات الواقع، فالله في كتابه يقول أن لا تكلف النفوس الا بما تستطيع، وهم لن يستطيعوا تغيير النظام المالي القائم على الفائدة وسيجدون تبريرات شرعية في فقه المرابحات وتفاصيلها، ولا بإمكانهم إلغاء جميع المظاهر الإجتماعية، الا إذا شنو حرباً واسعة على أرزاق الناس من السياحة، وغيرها، وربما سيجدون في فتوى االشيخ القرضاوي مخرجا لهم في غضّ الطرف عن بيع الخمور، فقد سبق له أن اجتهد بأن شرب كمية قليلة جداً من الخمر، ليس بمحرّم. كذلك فهم لن يستطيعوا تغيير القوانين العقابية وإعمال الحدود، لأن ذلك يفتح عليهم أبواب التشهير في الغرب، وهم بالطبع - واقصد الإخوان المسلمين- لم ينسوا الدعم المعنوي الذي قدمته لهم وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي زارت قيادتهم خلال جولة لها في مصر. ولكن المرأة والمكاسب التي حصلت عليها في عهد النظام السابق، ستكون هدف الإسلاميين الأسهل، وقد صرحوا بذلك في معرض نقدهم لما أسموه بقوانين سوزان مبارك، المتعلقة بالأحوال الشخصية، فالويل إذاً لملايين النساء، ومعهن ملايين الأقباط أصحاب الشرعية الأولى في أرض مصر، الويل لهؤلاء من سطوة حكم يلبس رداء الإسلام، وقد لا يتخذ هذا الحكم أسلوب الصدام مع الأقباط، ولكن سيستمر بالتأكيد في تنمية داء الفرقة والتمييز الإجتماعي والديني ضدهم، إلا إن مما يقلل من هذه المخاوف جزئياً، هو إن الأقباط دخلوا بقوة في ساحة الصراع، بحكم ظروف الثورة، ويا ليت النساء يفكرن في تنظيم أنفسهن في أحزاب مستقلة أو ضمن أحزاب قائمة، ليشكلن عنصر ظغط يعتد به.
أختم هذا المقال بذكر مشهد حقيقي روته لي صديقة مصرية، يقدم خلاصة لنظرة السلفيين الى المرأة، فقد عقدوا اجتماعا في قاعة كان فيها تمثال لامراة ترتدي ملابس عادية، لكنها في فقههم quot;كاسية عاريةquot;، فما كان منهم الا ان يغطوا التمثال قبل بدء الإجتماع، فإذا كانوا يخشون من فتنة التمثال فكيف سيتصرفون مع الأصل، هذا بالإضافة الى ما يشنه معظم الإسلاميين على الأنشطة الفنية التي تحتضنها مكتبة الإسكندرية العامرة، التي هي مفخرة لشعب مصر، وصرح ثقافي عالمي.