ابتداءً أعتذر لإيلاف وللقراء الكرام للخطأ الذي حصل في مقالي فقد تضمن فقرات اخبارية من الصحافة لم اكتبها انا وانما كانت محفوظة مع مسودة لمقالي المذكور، وقد ارسلتها خطأً بدل النسخة المصححة والتي تنتهي بالسطر التالي: (.. حتى تنضج مقومات نهضة شعبية تقود الى تغيير جديد؟) أي ان مابعد هذا السطر ليس من مقالي. وفيما يلي المقال الأصلي. أما عن وصف الحكماء فأنا كنت أعّول على نباهة القراء فانا لا اقصد الحكمة وانما عكسها تماماً.

مع إيقاع يوميات الأنين العراقي لفقد الأعزاء وافتقاد أبسط مقومات حب الحياة، يتابع الناس أخبار ولادة متعسرة طال مخاضها وتوشك صاحبتها على الهلاك، الولد المرتقب هو مجلس السياسات العليا، والأم ذات الأحمال القصوى هي دولة العراق التي تنوء بمجلس نوابها وثروته الباهضة، وحكومتها المعوّقة، ومجلس رئاستها ذو الميزانية الأسطورية. هذا المجلس المنتظر إختراع غير مسبوق في بلد يتعثر سياسيوه في طريق البحث عن نظام للحكم يضمن مصالحهم وامتيازاتهم، فمنذ نهاية الانتخابات في العام الماضي والصراع قائم بين رئيس الوزراء نوري المالكي وخصمه رئيس القائمة العراقية الدكتور أياد علاوي، والشغل الشاغل لقمم السلطة، هو كيفية التوفيق بين تمسك الأول برئاسة الحكومة، وإصرار الثاني على أحقيته فيها وإلا فانه يستحق منصباً أكثر أهميةً. ولم يعد يخفى على العراقيين بان ذلك الصراع قد ولّد حقيقة صادمة تقول: أما أنا أو الخراب، وهكذا فكلما تأزم الوضع بين الخصمين، أطلق السيد علاوي العنان لكل الإحتمالات، فتستفيق الخلايا النائمة لتستأنف عملياتها بكل أشكالها، تفجيراً ودماراً، ثم يبدأحصاد الأرواح والجراح، وليس مهماً من يكون المنفذون، سواء القاعدة أو من يستأجر خدماتها.

وبانتظار القراءة الثانية لمشروع قانون المجلس الوطني للسياسات العليا، التي سيستمع اليها البرلمان في الشهر المقبل، أجد نفسي مأخوذة أمام عبقرية صياغته وبلاغة إيجازه، فعلى الرغم من معرفة الجميع بأن فكرة المجلس تقوم على ضرورة تعويض علاوي لخسارته الحقيقية او المدعاّة لرئاسة الوزارة، وانه لابد ان يكون رئيسا لهذا المجلس، فان مشروع القانون لم يتضمن أي نص عن الرئيس وصلاحياته. أما تركيبة المجلس فهي في غاية العجب، فأعضاؤه هم : رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، ونوابهم أجمعين. بالاضافة الى رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس أقليم كردستان، وعضوين من الكتل السياسية الكبرى، الأربع. وفي حين تقول المادة الثالثة من المشروع، ان الهدف منتأسيسه هو quot;المساهمة الفاعلة في حل العقد التي تعترض العملية السياسية في العراق والخطوط العامة للسياسيات العليا للدولة وتقديم التوصيات والمقترحات بشأن التشريعات والقوانين وبشأن اصلاح النظام القضائي وفق السياقات الدستوريةquot; نجد إن اعضاءه المفترضين انفسهم لايمكن ان يتفقوا، فكيف يقبل الرئيس الطالباني ان يعمل بإمرة علاوي، وكذلك المالكي والنجيفي والبارزاني، فهؤلاء الأربعة يفترض انهم يمارسون سلطاتهم بشكل مستقل، إعمالاً لمبدأي فصل السلطات والفيدرالية، الواردين في الدستور، وبالتالي فان مجلس السياسات سيولد مشلولاً، فلا قرارات إلزامية ستصدر عنه لأنها تستوجب نسبة ثمانين بالمئة، وإلا فهي مما يستأنس به لدى اصحاب القرار. وبذلك سيكون المجلس نفسه سبباً للمنازعات والمساجلات العبثية بين القوى السياسية، وسيؤدي اقراره الى هدر مبدأ الفصل بين السلطات، ومخالفة الدستور الذي لا يتضمن اي نص يجيز تشكيله. والغريب ان الاختلاف بشأن هذا المجلس، لم ينبه الساسة الى وجود مخرج دستوري يستطيعون بواسطته إرضاء علاوي، لماذا لم يفكروا بتشكيل مجلس الاتحاد (المؤجل منذ سنوات) ويمنحوه رئاسته، أم ان هذا المنصب يرتب على صاحبه التزامات حقيقية لا يقوى الدكتور علاوي على التعهد بمراعاتها؟
النتيجة المأساوية التي نخرج بها مما تقدم هي إن ما حصل في العراق من إسقاط لنظام صدّام حسين والتضحيات التي قدمها الشعب العراقي من اجل ذلك، لم تكن إلا لتنصيب هؤلاء الساسة في مواقعهم ورهن ثروة البلاد لضمان رفاهيتهم، ولعل ما تردد قبل أشهر من ان المجلس المقترح سترصد له ميزانية خيالية، غير بعيد عن الصواب، كيف لا وهو يجمع كل الرئاسات!!
إن الموضوع الأساس في رأيي، ليس المجلس وصلاحياته، لكنه مرض السلطة نفسها، مترافقا مع الافتقار الى النضوج السياسي الذي يستحيل معه هضم مفردة الديمقراطية الوافدة الينا قبل اوانها. فلو افترضنا ان السيد المالكي لم يقاتل من اجل ولاية ثانية وترك المسرح لمنافسه علاوي، واكتفى بتزعم كتلة معارضة قوية، وتجنب الخضوع لضغوط ايران وما تطلبه من المساومة مع كتلة الصدريين، ولو انه احتفظ بمجده السابق في إرساء النظام وسلطة القانون ومعاقبة الميليشيات المنفلتة، ماذا كان سيحصل في أروقة البرلمان؟ هل كان علاوي سيتفهم متطلبات العمل بين السلطة والمعارضة؟ هل كان سيصغي لرأي مخالف؟ أم ان ما عرف عنه من فردية القرار داخل قائمته، سيكون هو نهجه في رئاسة السلطة التنفيذية؟
هناك نقطة اساسية لابد من الاشارة لها، تتعلق بدور دول الجوار العربي وايران، في شحذ همم الصراع بين الرجلين، فهما ليسا المقصودين ويمكن ان يظهر على الساحة غيرهما، فقط يلحظ فارق بينهما، فالمالكي يعلم انه مغلول اليد، لكنه مغرم بالسلطة ، اما علاوي فهو طامح الى زعامة يتصور انه سيمارسها دون أغلال، او ان خياله يغريه بانه قادر على خداع من يدعمونه.
وبعد فان المجلس العتيد اما ان يولد فينذر بالعاصفة، او ان يظل راقدا في بطن امه البائسة فيزيدها وهنا على وهن وتعلن غرفة الانعاش تسممها، فاما ان تموت او تلد ميتاً!!
ان حكامنا يوغلون في دراسة علم السلطة، وينشد بعضهم حكمة الغلبة، مجتهدا أقصر الطرق في الوصول الى مراده، ولا شك ان من بينها إعمال نظرية quot;الترسquot; التي اجترحها فقهاء القاعدة من الأولين والآخرين، وتفصيل ذلك ان الحاكم يتترّس بالمواطنين، اي يحتمي بهم، فاذا ضحّينا بقسم منهم - كما جرى في تفجيرات يوم الاثنين الخامس عشر من هذا الشهر في محافظات عدّة - اهتزت هيبته، وكلما زاد الفقدان والترويع، تراجعت سلطته، وخابت مزاعمه باستتباب الأمن، واقترب زواله. إن ذلك من آيات الشقاء في عراق مابعد الاحتلال، كما كانت عواصف الغضب في عهد صدّام وحروبه القاتلة، فماذا يبقى من التغيير وكم على الناس ان يتحملوا حتى تنضج مقومات نهضة شعبية تقود الى تغيير جديد؟