يستعيد الشعب العراقي في هذه الأيام مآسي حرب العام 2003، وواقعة القصف بالسلاح الكيمياوي على قرية حلبجة الكردية في العام 1988، وبالتزامن مع هذه المشاعر المريرة، تنطلق جماهيره في تظاهرات مستمرة، للتعبير عن نفاذ مخزون صبرها، ولتعلن ان لا استثناء لحكومة العراق من موجة الغضب العارم، التي تعم أغلب أرجاء المنطقة العربية، ضد منظومات الحكم الفاسدة والمتجبرة، وإن التذرع بمقولة العراق الجديد والإنشغال ببناء الديمقراطية، وسط تحديات واختلالات أمنية، لم يعد مقبولاً.
اليوم وبعد ثماني سنوات على الغزو الاميركي، يتساءل الناس ماذا جنوا من مكاسب وسط الدمار الظاهر في العمران، وتزاحم أطياف الضحايا. لقد فتح المحتلون أبواب العراق وأعلنوها حرية غير مبالية، وحدوداً لا حراس عليها، وهكذا انطلقت الحناجر بكل الأصوات، رافقتها موجات من الفوضى والنهب، التي وصفت في حينها بأنها ردة فعل إنتقامية على جور النظام السابق، وستأخذ مداها، ليعم بعدها الشعور بالإنعتاق والإستقرار.
الحرية إذا هي أولى المكاسب، فقد كسر الإحتلال حاجز الخوف من نظام قلّ مثيله في البطش والإستعلاء، لكن مقابل هذا المكسب المعنوي، ضاعت حقوقاً أساسية للمواطنين، فبعد الإنحسار النسبي للعمليات الإرهابية، مازالوا يصارعون من أجل متطلبات العيش الكريم في حدوده الدنيا، فالرشوة والإثراء الفاحش الذي يتمتع به كبار المسؤولين وبعض صغارهم في معظم أجهزة الدولة، فضلاً عن الإتجار بالدين، وتغليب النزعات الطائفية والعنصرية والعشائرية والمناطقية، تكاد تكوّن بمجموعها الملامح الرئيسة لمرحلة ما بعد صدام، وإن كان هذا الأخير قد وضع الحجر الأساس لكثير من الإختلالات البنيوية في المجتمع العراقي.
إن الحرية دائماً باهضة الثمن، هذا إذا كانت قد تجذّرت فعلاً في الممارسة السياسية، لأن الواقع يشير الى انقضاء زمن الإحتفال بزوال الطغيان، وسيادة لغة جديدة، تستعدي الحكومة على الشعب بحجة إقرار القانون الغائب.
وبذلك فقد أصبحت الحرية مكفولة لفئات معينة كرجال الدين المرتبطين بأحزاب الإسلام السياسي، المهيمنة على البلاد، والميليشيات المتسترة بتنظيمات سياسية مدعومة من ايران وغيرها من دول الجوار، بالإضافة الى رؤوس العشائر ومتنفذيها من ذوي الحضوة بالمال والسلاح، وبعض المجموعات من بقايا التنظيمات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة، وغيرها. أما المواطنين العاديين فحريتهم تتلخص في المسيرات المليونية صوب مراقد الأئمة الأطهار، ملاذهم من فقرهم وهوانهم، وتتفضل عليهم السلطة بالحماية، مقابل استغلالهم سياسيا، سواء وافقوا أم لم يوافقوا، حريتهم في أن يذرعوا الشوارع ويتنقلون بين دوائر الدولة، بحثا عن حقوق ضائعة، لا يمكن استعادتها إلا بأكداس من الدنانير الهابطة القيمة، لرشوة الموظفين، حريتهم في أن يبكوا شهداءهم ويطالبون بالتعويض، الذي يصرف عادة لمحازبي المسؤولين وأقربائهم، ويؤجل عن سواهم. حريتهم في أن يحمدوا الله على بقاء البطاقة التموينية، وحتى هذه العطية المتدنية، هناك من المسؤولين من يسعى للتلاعب بها، وأخيرا فإنهم أحرار فيما تسرح ذاكرتهم، وأحسب إن الناس لم ينسوا إن صدام حسين كان وحده مصدر الشر والعبث بالقانون، وكان يملك السيطرة على أتباعه، لكن الزمن الجديد أفرز لهم قيادات كثيرة، تتمثل أساليب صدام، وتتحدث عن الإيمان والديمقراطية.
إن الشواهد على محدودية الحريات في العراق كثيرة، فالحكومة الجديدة التي انبثقت عن توافقات المصالح الشخصية للكتل السياسية، باشرت أول تمارينها السلطوية، بالهجوم على اتحاد الأدباء لثلاث مرات، وأغلقت الكثير من النوادي الأجتماعية، بحجة إن هذه الأماكن تخالف تعليمات أصدرها النظام السابق، في سياق quot; الحملة الإيمانية quot; الملفقة. كما يواصل المسؤولون عن التعليم، التضييق على الطالبات والطلاب في الجامعات والمعاهد، وفرض ضوابط مشددة، تتناقض مع أبسط الحقوق التي كفلها الدستور، هذا فضلاً عن الفصل التعسفي بين الصبيان والبنات في المدارس الإبتدائية، على الرغم من إن العراق كان قد عرف التعليم المختلط، حتى في الأرياف، منذ العقود الأولى من القرن الماضي. يجري كل ذلك بينما يتدنى مستوى التعليم العام الى درجات مؤسفة، وتشن حملة جاهلة على تدريس الفنون، كالمسرح والنحت.
وإذا أضفنا الى ما سبق، ما أقدمت عليه قوات الأمن، من محاصرة حزبي الأمة والشيوعي، وإغلاقهما، بذريعة إنهما يشغلان مباني عامة، حتى مع كونهما يدفعان بدلاً للحكومة، وإن معظم المسوؤلين، صغارا وكباراً يحتلون أملاكاً عامة ولا يدفعون شيئاً، إذا أخذنا كل ذلك بالإعتبار، تتضح لنا صورة الحريات في بلادنا المفترى عليها.
ولدى الرجوع الى مقولة quot;العراق الجديدquot; التي يلهج بها أغلب المسؤولين، نجد على أرض الواقع، حزمة كبيرة من quot;قرارات مجلس قيادة الثورةquot; التي أصدرها صدام، ما زالت قيد التنفيذ، والأمر لا يقتصر على القيود المفروضة على النساء في زيهن وسفرهن، بل يتجاوز ذلك الى معظم التعليمات المتبعة في تسيير المعاملات في دوائر الدولة، فإجراءات التقاعد، مثلاً تستغرق شهورا، أو أكثر من عام، لتحصيل راتب زهيد، كذلك الحال بالنسبة لإعانات الأرامل والمطلقات، وهذه ليست ميسرة إلا بفعل الواسطة.
والأهم من كل ذلك، ما يجري في السجون، والطريقة التي يعامل بها الخصوم السياسيون، فالعقلية التي قادت النظام السابق الى إلغاء صوت الشعب، ومعاملته بالإكراه السياط، يعاد إنتاجها برداء جديد. وليس بعيدا عن هذا السياق ما جرى للمتظاهرين، يوم الخامس والعشرين من الشهر الماضي، فقد أزهقت أرواح بريئة، وفتحت جراح، وعذب معتقلون، دون وجه حق، فقط لأنهم طالبوا بالأصلاح والخدمات ومحاسبة المفسدين، ولم ينج من عسف رجال الأمن الجدد، حتى الصحفيين الناقلين لصورة الحدث، وتلك الممارسات شملت معظم ساحات التظاهر، بما فيه ما كان في منطقة كردستان.
إن الفساد في العراق أصبح سياسة قائمة بحد ذاتها، والمفسدون من سرّاق المال العام لا يطالهم العقاب، ولا يعلم المواطنون متى سيحاكم هؤلاء وأي لغز وراءهم، وأين ذهبوا بالمليارات التي استولوا عليها. وهنا لابد من تثبيت فكرة أجدها صائبة، صحيح إن سلطة الإحتلال الأميركي، هي المسؤولة عن منح الرواتب الخيالية للمسؤولين العراقيين، ربما تعمداً لنشر الفساد، أو لأنها لم تجدالعدد الكافي ممن يرغبون في خدمة وطنهم في ظروف بالغة الصعوبة إلا بمقابل باهض، أو لأنها لم تحسن التخطيط والإتصال بعناصر مخلصة حقا للوطن، وليس لها وطن بديل، وأيا كان الإحتمال فإن كل ذلك لا يمنع من أن يعود ولاة الأمر في بلادنا اليوم، الى ضميرهم السابق، وقد كانوا بالأمس معارضين، باحثين عن أرض تضمهم، وراتب زهيد في دول اللجوء، وأن لا يتحولوا من متظلمين من نظام جائر، الى مصدر للجور. ومن حقي هنا أن أسأل، كيف ينام قادة الكتل والأحزاب في قصورهم الفارهة، وهم يعلمون إن من بين مواطنيهم من يعيش جنب المزابل ويقتات من بقايا الغذاء فيها، وكيف يجمع بعض رجال الدين، الأموال المكدسة في العتبات المقدسة، وضريبة الخمس- التي فقدت شرعيتها التاريخية- ولا ينفقونها على المحتاجين في البلاد، على كثرتهم، أو حتى على إصلاح حال المدن في كربلاء والنجف وماحولها.
وفي صدد إهدار المال العام، لابد من الإشارة الى مبادرة عدد من منظمات المجتمع المدني، في بغداد، بمقاضاة أعضاء البرلمان، لكونهم تلقوا رواتباً دون أن يقدموا خدمات، وذلك في الفترة ما بين حصولهم على العضوية، وتشكيل الحكومة، وقد استغرقت أكثر من ستة أشهر، وطالبت هذه المنظمات برد الرواتب الى خزينة الدولة. ومهما يكن من حظوظ هذه الدعوى في النجاح، إلا أنها تعبر عن معاني رمزية، وتقول لا للتميز بدون وجه مشروع.
إن معاناة العراقيات والعراقيين، لا نهاية لها في الأفق المنظور، ولكني أخلص من كل ما تقدم، الى أن السلطة ومعظم النخب السياسية، تعيش حالياً أزمة قيم، أو اختلال في موازينها الأخلاقية، فيما يتعلق بمنظومة المبادئ التي شدد عليها الإسلام، كالصدق والأمانة ووجوب الوفاء بالعهد وخدمة الناس، وكذلك ما أقرته لوائح حقوق الإنسان العالمية. فالمعنى السامي للديمقراطية، تحول الى توافقات مصالح خاصة في النفوذ والمال، خدمة الوطن تقايض بالثروة الفاحشة، وحق العمل مكفول لمنتسبي الأحزاب ومؤيديها فقط، والأدهى من ذلك إن الإساءة للدين أصبحت منهجاً لتجار السياسة، لقد صادروه من قلوب الناس، ليلقوا به في سوق المصالح، فمأثرة الإمام الحسين الخالدة، توظف للتعبئة السياسية، البعيدة كل البعد عن العاطفة الشعبية، والحب الراسخ لأهل بيت النبي، لدى جميع العراقيين.
- آخر تحديث :
التعليقات