إنها مصر تلك البلاد التي نحبها، ونعشق انبثاق نهضتها، سياسةً واجتماعاً وفنوناً راقية، إنها صوت سيد درويش وفؤاده الذي أيقظ أم البلاد، إنها القاهرة عابرة الهموم والفقر، وتلك المدائن التي تغفو على ضفاف النيل، قامت لتودع قصة الامس، وتعلن بدء تاريخ جديد.
هنيئاً لشعبها تعاقب الثورات والإطاحات بالجبابرة، فبالأمس طويت صفحة صدام، على الرغم مما أحيط بالفرح العراقي، يوم زواله، من نفاق العداء العروبي لأميركا، وبعده رحل بن علي حاملا خيبته وذنوب سنوات حكمه. وهاهم شباب مصر يقولون لحاكمهم، لعلّك تتأسى بزميلك وتغادر عرش مصر، ولكن هيهات، فالرئيس مبارك تعلم جيدا كيف يلغي حواسه إلا واحدة، فهو يجيد تذوق ثروات شعبه ويحسن ابتلاعها.
انتفاضة جماهير مصر، عزيزة المثال، رائدة في إيقاعها الحضاري، إلا إن الجميع يتساءلون أليس من خطوة تالية؟
لابد من تضييق مساحة المناورة ومحاصرة النظام، وهذا ما ادركه المتظاهرون حين توجهوا يوم التاسع من شباط ndash; فبراير، الى مباني مجلس الشعب، والشورى، ومجلس الوزراء، وسدوا منافذها، مطالبين بإغلاق البرلمان المزور، وهذه خطوة ضرورية للضغط على السلطة، والتعجيل بإقناع الرئيس بحتمية تفويض صلاحياته الى اللواء عمرسليمان الذي يبدو كما لو انه الحاكم الحقيقي، وقد عبر عن تصميم واضح على الاحتفاظ ببنية النظام، من خلال نبرة التهديد في كلمته الاخيرة quot; لانتحمل العصيان المدني ولا نريد ان نواجهه بالشرطة..quot;. ويقول عن مطلب رحيل مبارك، إنه يخالف اخلاق المصريين، ولا ادري عن اي اخلاق يتحدث، أهي تلك التي سمحت بتجويع المواطنين وقهرهم ونهب اموالهم؟ ثم من هو هذا الرجل الذي برز الى الواجهة، بعد ان كان يعمل في الخفاء ويقود جهاز المخابرات الذي حمى النظام من الانهيار؟ هل يستطيع تولي مهمة هدم كل ما عمل على بنائه من ركائز الحكم الفاسد عبر سنوات طويلة.
نراه يتحجج بالشرعية الدستورية وعدم أمكان إجراء الإصلاحات الدستورية إلا من خلالها، فأين كانت هذه الشرعية حين قتل رجال الامن المواطن خالد سعيد، في الصيف الماضي، وكانت صرخاته هي الشرارة التي اشعلت غضب الجموع. أين كان الدستور الذي يكفل حرية العبادة، حين أضرمت النيران في قرى الاقباط، بالتواطؤ مع رجال الامن، أي شرعية تلك التي تجرد الناس من حماية الشرطة، وتطلق عليهم مجرمون محترفون؟ ثم إن الدستور مع تناقضاته وتعقيداته، يسمح بموجب المادة 139 منه بالتالي: quot; لرئيس الجمهورية ان يعين نائبا له او اكثر ويحدد اختصاصاتهم ويعفيهم من منصبهم quot;، ما يعني ان باستطاعته تفويض اي من صلاحياته دون تحديد، ويبقى رئيسا حتى نهاية مدته. كما انه يستطيع حل البرلمان، قبل التفويض، دون اللجوء الى لعبة فحص الطعون.
إن قرار الرئيس بتشكيل لجنة لتعديل الدستور واتفاقها على تعديل ست مواد منه، وإصداره تعليمات لرئيس الوزراء بتشكيل لجنة لمتابعة هذا الشأن، ثم لجنة ثالثة لتقصي الحقائق حول اعتداءات الاربعاء، بالاضافة الى تعهده بعدم ملاحقة الشباب المنتفضين، كل ذلك لا يعالج مسالة اساسية هي فقدان الثقة بمصداقية النظام. وتأسيساً على ذلك فإن محاولات عمر سليمان لترقيع وجه السلطة، لن تلقى قبولا من الشعب الذي يزيد احتشاده ويتفاقم غضبه، وآخره ما حصل في محافظتي الوادي الجديد وبور سعيد، فضلا عن التظاهرات المطلبية لعمال المطار وبعض المستشفيات. الى ذلك تاتي الجمعة الجديدة، التي اسماها المتظاهرون quot; يوم الزحف quot; ولا يستبعد ان تسير الجموع الى قصر الرئاسة، وعندها يمثل الاحتمال الاخطر، أي ان تتصدى الشرطة للزاحفين.
الرهان اذاً على المؤسسة العسكرية، التي اضعفها النظام، ومن الطبيعي ان تنحاز الى الشعب، وان يتوجه خطاب الاحتجاج اليها كي تتحرك لإسقاط الحاكم المتعنت. وفي هذا الشأن أوردت بعض الصحف المصرية بأن عدد القوات المسلحة هو 460 الف فقط، بينما يصل عدد قوات الشرطة الى مليون وسبعمئة الف.
ثمة فكرة تبدو في الظاهر مستحيلة، لكنها خطرت لي مع كل صعوبتها التاريخية، ماذا لو اتفق النظام اتفاق مصلحة مع الاخوان المسلمين؟
إن افتقاد العدالة، الذي حرك الملايين ودفعهم الى ميادين الخطر، امر يدركه الرئيس مبارك ومساعده اللواء سليمان، ويعلمان ان أكلاف تحقيقها باهظة، لاتتحملها بنية النظام، فلماذا لا يجري التعامل مع مجموعة يعرفانها جيدا، ويملكان مفاتيح التحكم بايقاعاتها، بدلا من التورط بالتفاوض مع الشعب، بكل الوانه وابداعاته الثقافية ونهضته المجتمعية؟
فالإخوان يمثلون الوجه الثاني للنظام، بما يختزنونه من استبداد فكري قائم على تفسيراتهم للمعتقدات الاسلامية، والعدالة آخر همومهم، هم يسعون لتطبيق الشريعة الاسلامية وفق رؤيتهم المحدودة، ويمكن لسليمان ان يقدم لهم بعض التنازلات في هذا الشان، ويعرض عليهم صفقة، تمنحهم مكاسباً وشيئا من حرية الحركة، مقابل مساندة السلطة في السيطرة على حركة الاحتجاج. وكان السادات قد استعان بالتيارات الاسلامية، لتحجيم قوى اليسار وغيرها. يعزز هذا الاحتمال غموض موقف الاخوان، فالناطق باسمهم، عصام العريان، يقول ان الجماعة في حوارها مع سليمان، لم تطلب الترخيص لها بانشاء حزب سياسي، او اي مطلب خاص بها، سوى ما يطلبه الشعب، من تنحية الرئيس وتغيير النظام، ويضيف بان الجماعة ما زالت تفكر. من ناحية اخرى فان دعوات خامنئي، ونصر الله، للثورة الاسلامية في مصر، ووجود اسلامييى حماس على التخوم، يثير القلق ويغري الجماعة على رفع سقف مطالبها، فيما اذا انتوى النظام حقا بالتوجه اليها.
لكل ذلك لابد من أخذ زمام المبادرة والزحف نحو القصر الرئاسي، لتحويل مطلب الرحيل الى أمر واقع، فالوقت ليس من مصلحة جماهير التحرير، وسيدي جابر، وكل االمنتفضين من اجل كرامتهم ورزقهم، ولا ينبغي ان تضيع فرصة التغيير، وان يخيب أمل الامهات والآباء، بالثأر العاجل لدماء ابنائهم.


.