استوقفني مشهد عابر خلال متابعتي لزيارة الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد، الى جنوب لبنان، في الشهر الماضي، إمراة تشق الحشود من حوله، تتجه اليه لتعانقه، يتحاشاها بكل حساسية المتدينين الظاهرية تجاه النساء، يحيط رأسه بكلتا يديه فتقبل كتفه وتمضي بفخر. ولا احسب ان الامر مجرد تملق، فلعلها عبرت عن امتنانها لسخاء ايران وأموالها التي غمرت ضحايا حرب العام 2006 وجنبتهم ويلات الفقر، على قاعدة إن كل شيئ قابل للتعويض ndash; كما قال نصر الله - باستثناء الارواح التي ازهقها العدوان الاسرائيلي، وإصرار سماحته على المقاومة من اجل إدامة مفاعيلها الداخلية والاستقواء على المعارضين.
وكما نعلم فان جنوب لبنان لم يحظ باهتمام الحكومات المتعاقبة، منذ تأسيس الدولة اللبنانية، ربما بسبب نخبوية السلطة او لدواع طائفية، وزاد وضعه سوءاً بعد قيام إسرائيل وما أعقبها من خيبات عربية افضت الى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وأذرعها العسكرية التي انتهى بها المطاف في نهاية الستينيات الى الاستقرار على هذه الارض بما يشبه الاحتلال ويزيد، وكان ان تكرس إهمال الجنوب وغابت عنه الدولة نهائيا حتى كان أوان الغزو الاسرائيلي وترحيل القيادات الفلسطينية في بداية الثمانينيات. وكما كان الوجود الفلسطيني المسلح مصادراً لإرادة سكان الجنوب ومبعثاً لاستيائهم، فقد استدعى العدوان الاسرائيلي مقاومة وطنية، شارك فيها العديد من القوى والأحزاب، لكن ذلك لم يكن موافقا للسياسة السورية في لبنان، ولم يكن ليبهج آيات الله في ايران، الذين حازوا في بداية ثورتهم على تأييد شعبي واسع اتاح لهم مساحة من الانتشار في الجنوب، ساعد على إنشاء حزب الله، كفرع منشق عن حركة أمل، ليتسلم وحده مهام المقاومة الوطنية ضد الإحتلال الاسرائيلي، بعد تحجيم المقاومين الأوائل، ولتصبح quot;مقاومة إسلاميةquot; بقرار سوري.
وبسبب هذا القرار وبمؤازرة العامل الايراني، شهد لبنان بداية تشكل دولة حزب الله، التي وضحت معالمها من خلال الاستقبال الشعبي للرئيس الايراني في الجنوب، وقد بدت عليه نشوة الفاتحين، وهو يحيي جمهوره على طول quot; جبهة مقاومة الشعوب quot; التي كما قال، تمتد من ايران الى فلسطين، مروراً بلبنان وسوريا والعراق وتركيا.
وعلى الرغم من قسوة الإقرار بواقع السيطرة الايرانية على بلد مثل لبنان، كان أفضل ما يميزه انفتاح مجتمعه، ومدى حرية التعبير، ومجمل الحريات الفردية، فانه لا يمكن إغفال المنافع التي جلبها المال الايراني، لفقراء الشيعة، فقد وجدوا لأول مرة من يضمن لهم معيشتهم ويعوضهم عن غفلة مسؤوليهم وأشقائهم العرب، وهم في غمرة شقائهم لا يتعاطون التحليل السياسي ولا يهمهم،
ما يعنيهم هو إطعام الجائعين وبناء بيوتهم واستيعاب جيل الحرب في مؤسسات عالية التنظيم، وكل هذا خير من المراهنة على وطنية مفترضة لا تصمد أمام قوة العقيدة وزهو الشعار quot;المقاومquot;. وبالطبع لم تقدم ايران هذه الضمانات مجانا، بل مقابل تجنيد عدد كبير من شباب البلاد، يتم تجهيزهم وشحنهم بعقيدة الولي الفقيه التي يصرح قادة حزب الله بانتمائهم اليها، والعمل بمقتضياتها السياسية. ولا يقتصر الامر على الجانب العسكري والسياسي، فالاقتصاد ايضا أحد مفاتيح ايران للدخول الى لبنان، فهناك القروض الميسرة، ومشاريع الطاقة الكهربائية، وعروض بزيادة الاستيراد، بالاضافة الى استعداد ايران لتكون حلقة وصل بين الدولة والمغتربين اللبنانيين من رجال الاعمال في افريقيا لتسهيل حركة الاستيراد والتصدير
لقد زرعت ايران في أرض خصبة تركها العرب، وجاء نجاد ليشهد الحصاد. وهو مع كل حماسه ودعوته لإزالة إسرائيل وما يترتب عليها من مخاطر حرب جديدة، لم ينس التأكيد على وحدة اللبنانيين وتحذيرهم من تدخل الدول الاجنبية، لكن الطريف انه لا يصنف ايران ضمن المتدخلين، مع انها الاولى بينهم والاكثر فاعلية، والأخطر على نسيج المجتمع اللبناني، ففي مقابل التأسيس العقائدي لعناصر حزب الله، نشهد نشاطاً معاكسا وصحوة اصولية لم يعرفها لبنان من قبل.
وما دام الرئيس قد دعى لجبهة مقاومة عريضة، فلنتوقف معه عن محطته العراقية ولنتحرى عن الدور الايراني هناك، فماذا يكون امامنا :
صناعة زعامات دينية وتحديد أدوارها.
تسليح الميليشيات وتدريب عناصرها.
توفير الملجأ والحماية لجماعة انصار الاسلام الكردية المرتبط بالقاعدة.
التحفظ على عناصر القاعدة والسماح لهم بالعمل في العراق.
نشر عناصر المخابرات الايرانية لتطويق السياسيين ومراقبة الحكومة.
إغراق الاسواق بالبضائع الايرانية، ما يستحيل معه نمو اي صناعة وطنية.
تهريب المخدرات الى العراق.
تنظيم عمليات تهريب النفط العراقي.
وغيرذلك كثير، تصبح معه ايران القوة الاولى في العراق، تليها الولايات المتحدة بكل عثرات مشروعها السياسي وتخبطها العسكري.
هذه الدولة التي ابتلى العراق بجوارها كما ابتلى باستبداد العثمانيين وتخلفهم ، تعمل على تماسك انصارها في لبنان وتعمّر بيوتهم، بينما هي تخرّب في العراق وتصنع قادة دينيين أفاّقين، وتمعن في شرذمة اتباعها ليكونوا اكثر طواعية لسياستها.
لقد خلّفت الحروب الطويلة في كلا البلدين لبنان والعراق، جمهورا كبيرا من العائلات المعوزة وشباب تائهين حرموا من نعمة التعليم الرشيد، فتلقفتهم أحزاب وتكتلات تحتمي بهالة الدين، وتعمل وفق سياسة مرسومة لبناء دول على اساس الحق الالهي، على غرار دولة ولاية الفقيه.
وما يحصل في لبنان هذه الايام هو التمهيد لاعلان دولة حزب الله الشاملة، وإلا فما معنى ان يهدد أمينه العام اكثر من نصف اللبنانيين، ويحذرهم من مغبة التعاون مع المحكمة الدولية، وما هي دلالة رسم المراحل التي يحددها حزب الله لما يريد ان يفعله بلبنان وبخصومه؟
ولا يكتفي حزب الله باشاعة الرهبة من قوته وسلاحه في لبنان، بل يتعداه الى العراق، فيروج في إعلامه لعمليات الإرهابيين مثل quot;عصائب الحقquot; وغيرها ويوفد بعض عناصره لتدريب المسلحين، بالتنسيق مع المخابرات الايرانية.
ويبدو ان قدرنا في هذين البلدين، ان نكون ضحايا الخلاف بين الولايات المتحدة التي لا تحسن قمع غرورها، ولا تجيد خدمة مصالحها، ولاتفهم كيفية التعامل مع المجتمعات التي تقتحمها، وبين ايران التي تطمح لاستعادة مجدها الامبراطوري وتسعى لمحو آثار عدوان صدام على أرضها، وذلك باستهداف الشعب العراقي وثرواته، وهي ليست كالامريكيين غريبة عن مجتمعاتنا، فهي تعرف جيدا كيف تخترقها وتهيمن عليها، والدين خير سلاح لديها، فتعبئة الناس بواسطته اكثر يسراً من التعبئة بافكار أو نظريات أخرى تقتضي جهدا كبيرا للإقناع. والسؤال هل هذا هو الدين الحق الذي لابد أن يتأسس على العدالة والمحبة والفرص المتساوية، أم ان هناك دينين: دين الله، ودين المصالح والتجارة الرائجة؟
كاتبة عراقية
التعليقات