أخيراً حطت الثورة في أرض ليبيا كطائر أرهقه طول تحليق في هجير الصحراء، ليستريح فوق الجبل الأخضر، وكنت كغيري فاقدة الأمل في أي احتمال لتصدع مملكة القذافي الخرافية والموغلة في جهلها الحديدي، وخلت إن على شعب ليبيا أن يتبّع خطى quot;يأجوج ومأجوجquot; في حربهم مع ذي القرنين، فيحفروا قواعد السد المنيع، ليخرجوا الى العالم، أعاذنا الله من أن يمتد عمر العقيد الى مئتي عام. أخيراً عاد علم الاستقلال الوطني، ليرفرف فوق ربوع البلاد المحررة، وأنزلت راية النفاق الأخضر، وإنها لجريمة أن تصادر بهجة الطبيعة وأجمل ألوانها، ليكون رمزاً لجماهيرية فارغة من أي محتوى إلا موت الحضارة.

وأنا أرقب أي صور أو أنباء من ساحة الصراع، وأستمع الى صرخات الليبيين في المهاجر، يناشدون دول العالم أن تغيث إخوانهم، تداعت الى ذاكرتي قصة صاعقة، سمعتها من مهندس عربي عمل في ليبيا، فبينما كان يتابع برنامجا تلفزيونيا، وإذ بالمذيع يوقف العرض ويعلن عن خبر مهم، إنه الإعدام المتلفز!! فقد جيئ برجل قيل إنه متآمر، ليعدم على طاولة أمام المشاهدين، ويالهول الفاجعة، فهو زميل لذلك المهندس وكان قلقاً لغيابه.

مشهد آخر من مسرح الرعب الذي شيّده القذافي، كان في مقر القاتل الفلسطيني المأجور أبي نضال ( فتح- المجلس االثوري )، فحسب إحدى معارفي، سيدة فلسطينية، وزوجة أحد القياديين في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فقد اختفى زوجها بين لبنان وسوريا، في الثمانينيات ولم تهتد لأي أثر له، لتكتشف بعد سنوات إنه مدفون في مقر أبي نضال في ليبيا، ولا غرابة فإن بين القتلة حلف موصول وقواعد مبذولة.

كثيرون هم ضحايا حاكم ليبيا، غير ان أشهرهم هو الامام موسى الصدر، الذي كشف مقتله عن واقع الخسة في خلق هذا الرئيس، فكيف يقتل ضيفه وهو ما انفك يباهي ببداوته. إن اقتران الإجرام بانعدام القيم والحد الأدنى من الخلق، هو الترجمة الحقيقية لبعض الأنظمة العربية، وهو ما يزيد من صعوبة الإنعتاق منها.

إن انتفاضة الشعب الليبي لم تكن بعيدة عن هواجس القذافي، ففي مؤتمر القمة العربي الأخير الذي عقد في دمشق، وفي معرض تأّسيه على شقيقه صدام حسين، حذر القادة العرب من مصير مشابه له وكانت ابنته قد تطوعت للدفاع عنه اثناء محاكمته في بغداد، التي دامت اكثر من عام، تسنى له خلالها ان يلقى خطباً، ويكيل شتائماً لخصومه.

إن ما يتعرض له أحرار ليبيا من مجازر وقصف وحصار، يوقض في النفس مواجع عراقية عمرها عشرون عاما، حين سحقت طائرات صدام جموع المنتفضين العزل إلا من غضبهم، حينها لم يكونوا ينعموا بتعاطف إخوتهم، ولم تكن هناك فضائيات تنقل أو تتحدث عن الحمام التي تصب فوق رؤوسهم، لما ألصق بهم من شبهة التابعية لإيران، كون غالبيتهم من الشيعة العرب، والكرد. وكان لمبارك وبعض ولاة أمر المنطقة، سبق التدخل لدى الادارة الاميركية، لمنع القائد شوارتسكوف من مواصلة زحفه الى بغداد، لإسقاط النظام، بعد ان تم تحرير الكويت. وحين تنبهت الإدارة الاميركية الى عمق خطئها وإصغائها لحلفائها، لدرجة بكى معها الرئيس الأسبق بوش الأب، بادرت الى غزو العراق في العام 2003. ومهما يكن من بشاعة الحرب، وجرائم القوات الأميركية بحق الشعب العراقي وجيشه وشرطته، إلا انها لو تمت في العام 1991 لما كانت ايران بمثل قوتها الحالية، ولما لحق بالعراق من كوارث وتجهيل اجتماعي وإعلاء لقيم القبائل والطوائف، على مدار سنوات الحصار الدولي والاستبداد الداخلي. وعلى الرغم من الهياج العربي ضد اميركا وما فعلته في العراق، الا أن الليبيين والعرب الآن يناشدون دول العالم للتدخل وإنقاذ شعب ليبيا من بين أنياب القذافي وأبنائه. أتساءل عن معنى التدخل في هذه الحالة، ومرتزقة النظام وطائراته، يجهزون على المتظاهرين العزل، ألا يعني حملة عسكرية يقودها حلف الاطلسي اوتشنه اميركا منفردة، ام ماذا، ولا أظن ان المقصود هو الدعم المعنوي من الشعوب المحبة للسلام!!

ماذا تعني ظاهرة القذافي، أي سم زعاف سقاه لشعبه حتى أماته كل هذه السنين، كيف استخدم اموال بلاده لرشوة ثوريين ومثقفين وسياسيين عرب، كانوا يحجّون الى طرابلس، ليصغون الى ترهاته ثم يستلمون عطاياه، وكان آخر مجالسه العربية حين استقبل مجموعات من السياسيين العراقيين، وجلّهم من البعثيين، ليترحم على صدام ويشتم الشعب العراقي. ان لقذافي وغيره ممن علقوا في سدة الحكم، افرزتهم مرحلة الانقلابات العسكرية المغلفة بالفكر القومي، التي عطلت مسار التطور الاجتماعي والسياسي في الكثير من الدول العربية، وعلى الرغم من المكاسب التي حققها عبد الناصر لفئات العمال والفلاحين في مصر، فان تأثيره العربي حمل الينا ظواهر مثل القذافي وأنظمة البعث، فآل العراق الى خراب، وسوريا الى الإغراق في الجمود داخليا، والإستعداء خارجيا، عبر تطويق لبنان، وفي ليبيا انتهى الامر الى تجهيل شعبها وتدمير بناها المجتمعية، وترحيل ثرواتها الى مرافئ بعيدة، تكفل انتشار عباءة القائد (المجد) على ربوع القارة السمراء.

انه يتظاهر بمحبة افريقيا، لكنه في الحقيقة يزدري شعوبها، ويستهزئ بكفاح ابنائها ضد الاستعمار والعبودية، حين ينصب نفسه ملكا عليها، وباستخدامه لمرتزقة أفارقة، فانه يؤسس لحالة حقد ليبي على بعض الدول الأفريقية كتشاد والنيجر مثلاً، ما يؤثر سلبا على مجرى العلاقات مع هذه البلدان مستقبلاً.

ان طبائع بعض المتجبّرين، القاهرين لشعوبهم، تتشابه في كثير من الاوجه، ففي العام 1986 حين قصفت القوات الاميركية مقر القذافي، توارى قائد الجماهيرية عن الانظار، واختفى في مكان قصي، بدل ان يظهر لشعبه ويشدّ من أزره، وعلى ذمة قيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان مقربا منه، قال: انه ذهب الى طرابلس والتقى القذافى وحثه على الخروج من مخبئه ومواجهة التحدي، ولم يقتنع الا بعد اسبوع. وكذلك الحال مع صدام حسين الذي لم يتورع عن ممارسة أبشع الاساليب ضد العراقيات والعراقيين، من قطع للآذان والألسن، الى قطع رؤوس زوجات معارضيه وبناتهم واخواتهم وتعليق جثثهن في أماكن سكنهن، لكنه لم يقو على مواجهة الأميركيين حين غزوا البلاد، ولم يطلق رصاصة واحدة، بل ترك جيشه حائرا، وانزوى في حفرة، يبغي السلامة فقط.

في الختام أتساءل، ماذا لو بقيت قاعدة ويلز الأميركية، والقاعدتين البريطانيتين في ليبيا ولم يكن هناك قذافي؟ أكانت ليبيا ستشقى كل هذا الشقاء، في الاقل كانت ستتطور ببترولها كما تطورت بعض دول الخليج، التي انتقلت من تكوينات بدوية، الى مراكز حضارية ومالية باهرة.