الغضبة الشعبية العارمة في تونس التي إشتعلت ضد بعض الفنانين التوانسة الذين كانوا يشاركون في التسبيح و التمجيد بنظام الرئيس التونسي المخلوع والهارب زين العابدين بن علي، وكذلك ما يحصل من تداعيات مستمرة في الوسط الفني المصري بعد نهاية نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك قد فتحت ملفا متورما وقديما و ذو شجون و أسرار لعلاقة الفنان و المثقف في الأنظمة الشمولية العربية بقادة تلك الأنظمة وهي علاقة تفاعلية صميمة لأن الفنان العربي هو في النهاية جزء من التركيبة الإجتماعية و النفسية لتلك الشعوب ومواقفه إنما تعبر عن موقف التيار الأعظم السائد في المجتمع دون أن نغفل حقيقة أن لكل قاعدة إستثناء، والأنظمة العربية وخصوصا الشمولية منها تعتبر الفن و الفنانين أحد أكبر وسائل الدعاية الجماهيرية التي يمكن الإستفادة الجمة منها في محاولات الحصول على الشعبية وتسويق الطروحات و الأفكار، وقد غضب الجمهور التونسي على موقف فناني بلاده من مسألة دعم ترشيح رئاسة الرئيس السابق و التسابق لحضور حفلاته و مناسباته و السكوت عن مثالبه و جناياته و إنتهاكاته بحق المواطن التونسي؟

وهي مسألة لا يتحمل مسؤوليتها ولا تبعاتها الفنان وحده بل عموم الشعب و بمختلف إنتماءاته و تياراته، ففي النهاية ليس مطلوبا من الفنان أن يكون مقاوما أو مناضلا سياسيا إذا أراد العيش بسلام و الإنتشار و التواصل مع جمهوره، ولكن غض الطرف و إلتزام جانب الأمان شيء و التورط في مشاريع النظام المشبوهة وتسويق طروحاته والدفاع الأعمى عنه شيء مختلف بالمرة، ففي التاريخ العربي المعاصر جملة من الأمثلة يمكن العودة لها و تتبع مسارات تطور مواقف الفنانين أو تورط البعض منهم! ففي العراق مثلا كانت البدايات الحقيقية لتفاعل الفنانين مع السياسيين من خلال صفحات مجهولة للعرب حول التاريخ العراقي المعاصر، ففي عام 1936 حدث أول إنقلاب عسكري في تاريخ العالم العربي المعاصر وكان بقيادة الجنرال رئيس أركان الجيش العراقي الفريق بكر صدقي ضد حكومة رئيس الوزراء الراحل ياسين باشا الهاشمي في فترة سياسية حرجة هي الفترة التي سبقت إندلاع الحرب العالمية الثانية وحيث كانت موضة تمجيد القيادات العسكرية هي السائدة كما حصل في إيران ( رضا شاه ) و تركيا ( أتاتورك ) وحيث كانت للنزعة العسكرية في العراق تردداتها أيضا فبرز مجموعة من الضباط المتضاربي الأهواء و المشارب، فكان إنقلاب الجنرال صدقي في 29/ أكتوبر / 1936 باكورة تدخل العسكر في السياسة وشهد أيضا الإستعانة بالفنانين في تسويق النظام وحيث كانت المطربة العراقية الشهيرة ( عفيفة إسكندر ) من الفنانات المقربات للقيادة العسكرية العراقية وقتذاك، حتى جاءت أحداث إنقلاب 14 تموز/ يوليو عام 1958 ضد الحكم الملكي لتبرز قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي تغنى به و بخصاله فنانو العراق آنذاك وكانت ابرزهم الفنانة المطربة المعروفة ( مائدة نزهت ) والتي غنت الأغنية العاطفية المعروفة ( كالو حلو كل الناس تهواه )! التي فسرها البعض بكونها تغزلا بعبد الكريم قاسم، و هنا نتوقف في التاريخ العراقي السياسي المعاصر لندلف صوب مصر التي كان فنانوها خلال العهد الملكي يحظون بدعم و رعاية القصر و الطبقة الإرستقراطية من الباشوات ورجال الطبقة الأرستقراطية الحاكمة في ذلك الزمان الذين ومنذ أيام النهضة الفنية المصرية زمن الخديوي إسماعيل كانوا يرعون الفن و الفنانين فبرز الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب بين قصور الطبقة المترفة خصوصا وأنه قد حصل على رعاية خاصة من أمير الشعراء أحمد شوقي وغنى عبد الوهاب للعائلة العلوية الحاكمة في مصر و أنشد في الملك الراحل فاروق وكذلك في ملوك العرب أعذب الألحان وكذلك فعلت السيدة أم كلثوم التي حصلت على تكريم ملكي خاص بمنحها لقب ( صاحبة العصمة )! مما يعني رضا القصر الملكي عنها و رعايته لها، كما فعل ذلك كل جيل الطبقة ألأولى من فناني ذلك الزمان، حتى جاءت حركة 23 يوليو 1952 التي غيرت نهائيا و مطلقا ألأوضاع السياسية والإجتماعية وأنهت النظام الملكي وطردت أسرة محمد علي عن السلطة و البلد وقام حكم وطني عسكري محض ذو طبيعة شمولية إستخبارية، في تلك الأيام كان لزعيم ذلك الإنقلاب المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر موقف تاريخي، فقد لوحظ غياب أغاني أم كلثوم عن برامج الإذاعة المصرية أول أيام الإنقلاب فلما أستفسر عبد الناصر عن سبب ذلك أجابه الضابط المشرف على شؤون الإذاعة بأن أم كلثوم من مخلفات العهد البائد و أنصار الملك فاروق!!!!..

وهنا علق عبد الناصر بالقول إن ( الأهرام والنيل أيضا من مخلفات العهد البائد..) فهل نمنعهما أيضا ؟ فأنهى عبد الناصر تلك المقاطعة السخيفة ودخلت فيالق الفنانين المصريين في خضم التجربة السياسية والإجتماعية الجديدة وأضيفت إليهم الطاقات الشابة التي ظهرت لتواكب المتغيرات الطارئة مثل المرحوم عبد الحليم حافظ ( صوت الثورة المصرية و إبنها البار )، وأصبح عبد الوهاب و كذلك أم كلثوم نفسها من أقوى أسلحة النظام المصري الناصري الإعلامية و الدعائية فأولئك كانوا طاقات وطنية يتفق عليها الجميع بصرف النظر عن الأنظمة السياسية المتحولة، لقد أبدعوا وغنوا لمصر وشعبها و لعبد الناصر أيضا و للسادات من بعده، فملحن النشيد الوطني الجمهوري المصري الذي طوره عن موسيقى سيد درويش هو محمد عبد الوهاب، وشارك الفنانون المصريون في كل المناسبات الوطنية وأنتكسوا أيضا مع إنتكاسة وهزيمة يونيو/ حزيران 1967 وعانوا من أساليب دولة المخابرات و إبتزازها كما غنوا ومجدوا لنصر أكتوبر العظيم عام 1973 وخاضوا كل معارك مصر بصرف النظر عن هوية النظام السياسية، فلا يمكن بجرة قلم إلغاء أسماء و تواريخ وإبداعات فنية بسبب إرتباطها السياسي أو الفكري والعاطفي بنظام ما ؟ فالمسألة أعقد وأكبر كثيرا من ذلك التسطيح... لربما يكون الفنانون التوانسة قد غنوا لنظام بن علي المضمحل ولكنهم فعلوا ذلك بسبب حقيقة هيمنة وسيطرة ذلك النظام الشمولية والتي لايمكن لجموع الفنانين أن تزعزعزعه أو تهز أركانه إلا من خلال تحرك وطني شامل وهو ماحصل لاحقا، فالفنان إنسان له عائلته وإرتباطاته ومصالحه، وفي التجربة العراقية المرة صورة سوداء لمصر الفن و الفنانين، فلا يمكن مقارنة فاشية و إستبداد وتسلط نظام بن علي مع نظيرتها الفاشية البعثية العراقية التي هيمنت طويلا على العراق منذ تموز/ يوليو 1968 وحتى نيسان/ إبريل 2003 و خصوصا في الحقبة الأشد فاشية التي بدأت صيف عام 1979 عبر تسويق شخصية القائد الفرد الأوحد الذي لاشريك له وبداية قيام مهرجانات الردح و التسويق و التمجيد لقيادة صدام حسين وإنخراط جميع مطربي وفناني العراق بذلك المشروع بسبب حالة الإجبار والقهر القصوى والتي لم يتمرد عليها إلا ثلة قليلة من الفنانين لم يعد يذكرهم التاريخ للأسف وفي طليعتهم الفنان طريح الفراش حاليا وبحالة يرثى لها المطرب فؤاد سالم وبعضا من الفنانين الشيوعيين مثل سامي كمال وكمال السيد وحميد البصري وكوكب حمزة وأديبة وفرقة الطريق الموسيقية، بينما إنخرط الرهط الأعظم من الفنانين العراقيين في قوافل المسبحين والممجدين بالطاغية الذي أدخل العراق في متاهات الحروب العبثية ضد النفس أولا وضد الحزب الحاكم نفسه ثم ضد دول الجوار، بل أن بعض كبار الفنانين تورط بعيدا في نشاطات النظام ومنهم المغني البعثي داود القيسي ( مطرب البعث ) الذي قتل في أول أيام الإحتلال الأمريكي في منزله وبطلقة في العين!

بينما هرب مجمل الفنانين من أمثال الموسيقار طالب القره غولي و الموسيقار فاروق هلال و أعداد كبيرة أخرى فيما بقي البعض الذين غنوا بسبب الخوف من صدام وهم ياس خضر وحسين نعمة وآخرون... الفنان في النهاية هو إبن الشعب وقد يجبر أو تجبره الظروف على إتخاذ مواقف سياسية معينة لربما تكون مخالفة بالكامل لقناعاته الحقيقية ولكنه لا بد أن يسير المزاج السائد وليس كل إنسان يستطيع تحمل مشاق النضال والهجرة والتشرد و الضياع ودفع ضريبة ذلك ودعوات الإنتقام والمقاطعة المنتشرة حاليا في مصر ضد بعض الفنانين المصريين المؤيدين للرئيس السابق ومن الذين شاركوا في تظاهرة المهندسين في ساحة مصطفى محمود هو أمر عبثي لايخدم أبدا مسيرة التطور الوطني ولاجدوى أبدا من فتح سجلات الماضي ومحاسبة الفنانين على مواقف إنطوت أيامها فهم في النهاية ليسوا قتلة أو إرهابيين، صحيح أنهم شاركوا في الزفة الإعلامية والدعائية ولكنهم لم يتسببوا بكوارث، والحكمة والمصلحة الوطنية تتطلب إسدال الستار على الماضي والبدء بفتح صفحة جديدة، فالحرية تجب ماقبلها، والوطن يغفر لأبنائه زلاتهم والروح الإنتقامية لن تشفي غليل الباحثين عن العدالة في عالم متحول ومتغير.. ولو دامت لغيرك ما أتصلت إليك.. وتلك الأيام نداولها بين الناس.

[email protected]