منطقة الشرق الأوسط تتحرّك على صفيح ساخن لا يمكن التكهن بموعد بروده وهدوئه واستقراره. النيران البوعزيزية لا تزال ملتهبة تلاحق الطغاة، وأنصاف الطغاة، والذين على شاكلتهم، والسائرين في طريق الطغي والبغي، والملتحين بلحى الديمقراطية المستعارة. وليس هناك في الأفق أي بوادر تبشّر هذه الشرذمة العاطلة، الفاسدة، العفنة، المنبوذة على الأرض وفي السماء، والمقدّر لها، بإذن الله، بئس المصير وسوء العذاب، بأن هذه النيران ستنطفىء قبل أن تلتهمها جميعاً.

حتى الأمس كنّا نؤطّر الثورات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط، التي انطلقت وتكلّلت بالنصر لتوّها، وتلك التي في طريقها نحو تحقيق أهدافها المنشودة، فقط في إطار التخلص من الأنظمة الدكتاتورية الجاثمة على صدور شعوبها ردحاً من الزمن. لكنّ واقع الحال يقول غير ذلك، أو يقول أكثر من ذلك على وجه الدقة، وهذا ما تثبته الهبّة الشعبية في العراق وشماله، اللذين من المفترض أنّهما ودّعا حقبة الاستبداد والدكتاتورية بعد رحيل الطاغية صدام حسين ونظامه. وإذا ما أخذنا بهذا الافتراض فسيكون من حقّ كلّ شخص أن يسأل عن أسباب انتفاض الشعبين، العربي والكردي، في وجه نظامي بغداد وأربيل.

زوال الأنظمة الدكتاتورية وتحرّر وانعتاق الشعوب من ظلمها وجبروتها، رغم جميع إيجابياته، غير كافٍ. يجب أن لا يكون الغرض من القضاء على أي نظام دكتاتوري استبداله بآخر. الغاية الأسمى لأي عمل تحرّري يجب أن يكون ضمان حياة أفضل للشعوب الرازحة تحت نير الظلم والعبودية، وليس تسليط طغاة جددٍ عليهم عوضاً عن السابقين. لا يمكن المقارنة بين نظام الطاغية صدام حسين والقيادات الحالية في العراق وإقليم كردستان، ولكي أكون منصفاً، سأكون مجحفاً جداً بحقّ هؤلاء الأخلاف إن تجرّأت على تشبيههم بذاك السلف. ولكن، أليس من حقّنا أن نتوجّه إلى القوى السياسية الحالية بالسؤال عن إنجازاتها التي قدّمتها للعراق. الفوائد التي جنتها البلاد في سنوات حكمهم الذي لم يبق الكثير لتوديع عقده الأول. عن تضاعف أعداد المهاجرين العراقيين، بجميع أطيافهم ومشاربهم، في ظل الحكم الديمقراطي! عن التفشي المخيف لظاهرة الفساد، الذين باتوا هم أنفسهم يعترفون بوجوده بعد أن فاحت ريحته، وعمّ عموم أرجاء بلاد الرافدين. وأن نسألهم عن أسباب انتشار الفقر والبطالة والعمالة والرذالة والقذارة... وقائمة الأسئلة هذه تطول وتطول.

أمام هذا الواقع، المرّ والأليم والمأساوي، والكارثي بحق، لم يكن مستبعداً ومفاجئاً، البتة، خروج الشعب العراقي، عرباً وكرداً، جنوبيين وشماليين، وربما الشرائح والأطياف والجهات الأخرى في قادم الأيام، شاهراً غضبه في وجه قوى السلطة المتنفّذة. المثير في القضية هو طريقة تعامل السلطات، في بغداد وأربيل، مع المواطنين، الذين خرجوا في تظاهرات سلمية مطالبة بتحقيق الوعود التي طالما قطعتها هذه القوى على نفسها أمام الشعب، قبل وبعد سقوط الصنم السابق. طريقة تعامل سلطات الجنوب والشمال العراقي مع المواطنين، المتظاهرين العزل، لم تكن مختلفة بشيء عن تلك التي عُمل بها المتظاهرون في quot;موقعة الجملquot; وسط ميدان التحرير بالقاهرة، ولا عن الطريقة التي تعامل بها بعض من أعوان quot;زين الهاربينquot; مع جحافل المتظاهرين الأوائل في quot;سيدي بوزيدquot; وسط تونس. وهي نفسها التي تتعامل بها الآن باقي الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط، المهدّدة بالانخلاع، والتي تهتز عروشها الآن خوفاً من الغضب العارم المفجّر بوجهها من قبل شعوبها. هل هذه هي الديمقراطية التي كان يتشدّق بها منفيو الأمس وسلاطين اليوم؟ كيف بهذه السهولة يتحوّل من كانوا يدّعون أنهم يأبون الظلم إلى ظلّام؟ عمليات الاعتقال العشوائية في الجنوب، والاعتقال والقتل بالرصاص الحي في الشمال، لا يمكن إلا أن تذكّرنا بحقبة النظام العراقي البائد بكل مآسيها وويلاتها. أليس من الأجدر بهؤلاء أن يعودوا إلى منافيهم، ويتركوا الشعب يقرّر مصيره، إن لم يكونوا هم أهلاً للالتزام بوعودهم وتنفيذها؟

الثورات الشعبية التي تشهدها المنطقة لم تعد مجرّد عربية، بل أصبحت فارسية أيضاً، وهي الآن كردية، وقد تصبح تركية أيضاً في القريب. رياح التغيير التي هبّت من تونس، وتقوّت في مصر، هي الآن تعصف بكل منطقة الشرق الأوسط، وقد تذهب إلى حيث ندري ولا ندري! الكلام المعسول، الفارغ، المستهلَك، لن يُجدي الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط، على اختلافها، نفعاً بعد اليوم. أساليب الخداع التي أسكتت بها هذه الأنظمة شعوبها عقوداً من الزمن فقدت جدواها أمام ظهور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الحديثة. الشعوب الشرق أوسطية لن ترضى على نفسها، بعد اليوم، أن تُقاد وتُسيّر كطعان ماشية حسب مشيئة رعاة، حكّام، فرضوا سلطانهم بقبضات من حديدٍ ونارٍ، ولم يقدّموا لأوطانهم سوى نهب وتهريب خيراتها وثرواتها وإفقار شعوبها. ليس هناك من شيء قادر على ترويع شعوب الشرق الأوسط بعد اليوم، زمن نعتها بالوهن والضعف والاستكانة والخضوع والخنوع قد أدبرَ إلى غير رجعة. هي الآن شعوب ثائرة، غاضبة، قوية وشجاعة، محطّ تقديرٍ واحترامٍ كبيرين. هي شعوب توّاقة إلى الحرية والديمقراطية، هيهات أن تقبل بأنصاف الحلول وأنصاف الديمقراطيات!!

[email protected]