النخبة العسكرية التي تطلق عليهم الصحافة المصرية بالصفوة تَحكمُ مصرَ الآن بعد أن فوّض مبارك كل صلاحياته الدستورية الى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفوّض صلاحياته وواجباته كرئيس جمهورية الى نائبه عمر سليمان كرئيس المؤقت لتصريف شؤون الدولة.
وما تخبئه الأقدار لشعب مصر وأرادة جيل الثورة قد لايكون واضحاً للعيان، لأرتباط الأحداث بثقافة ودوافع وتُحضّر وتطلع شعب وقوة أرادته الذاتية.
التفويض الذي أصدره حسني مبارك حالة فريدة لامثيل لها، وتكمن فيه مشاكل قانونية دستورية وأخرى معنوية. فالتفويضان صدرا من رئيس لفضته الطبقات الشعبية المصرية وطالبت بأزاحته ورحيله في أنتفاضة ال25 من يناير كانون الثاني، على مرأى من العالم كله وتناقلته كافة وسائل أعلامها، آملاً أن يلحق هذا التغيير التاريخي تغيير دستوري يحفظ حرية وكرامة شعب مصر ويضعهم من جديد في مصاف الدول المتقدمة.
وبالتأكيد، أظهرت الأنتفاضة المصرية أن الجيش هو التابع وأرادة الشعب المصري هي المتبوع والمنفذ، وهي الحالة الدستورية والقانونية التي يجب أن تبقى قائمة وتسود دون مناورة أو أنقلاب المجلس العسكري على الثورة وسرقتها بأغتصاب السلطة أو تميّع نقلها الى السلطة المدنية أو العودة الى مصادرة حرّيّات الناس و حقوقهم الأخرى والإستفراد بآتّخاذ القرارات، خصوصاً المصيريّة منها تحت أحكام دستورية قد تكون حاصل تحصيل ماأفرزته سلطة الرئيس مبارك.
الجوانب النفسية الخطيرة وتوضيح مسؤوليات وسياسة هذه الصفوة في تعاملها مع شعب مصر أبرزتْ جوانب نفسية خطيرة قد تدفع الى ظهور دكتاتورية جديدة مغلفة بغلاف دستور جديد لاتطبق من نصوصه أِلا ماترتأيه صفوة العسكر. والبيان الذي أصدره البيت الابيض عن تعهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة نقل السلطة الى حكومة مدنية منتخبة له خلال الأشهرالسته القادمة له قراءات عربية وقراءات أمريكية. وما تعهد به العسكر للأدارة الأمريكية التي كثفت من نشاط دبلوماسيها وأتصالاتها بالقيادة العسكرية المصرية والبيانات الصادرة عن المجلس العسكري لأحتواء الأزمة وتهدئة الفوران الشعبي واجتثاث جذور الفساد وتصريحات رئيس الوزراء الحالي أحمد شفيق بأن الاقتصاد المصري صلـب و متماســكrlm;، قد يكون أقل من ربع الحقيقة المعروفة غرضه أمتصاص النقمة الشعبية بطرق التمويه والمناورة الدبلوماسية والعسكرية.
والجانب النفسي الأخر هو الحقيقة المؤكدة المؤلمة تاريخياً وهي أن أسرائيل كانت قد حققت نصراً أستراتيجياً وسياسياً أبان حكم القيادة العسكرية المصرية في عهد أنور السادات وأعترافه بها وتوقيع أول معاهدة سلام لدولة عربية مع الدولة العبرية بعد تمزيق الموقف العربي وطعن اللأت الثلاثة في الصميم. ومنذ توقيع أتفاقية السلام المُهينة بدأ نظام مبارك بصقل وجوه لم يكن لها شأن أو وزن سياسي وطني نضالي في تاريخ مصر ولم تُشارك في الثورة وأنما وقفتْ الى جانب فساد النظام. ومن المتوقع أن ينشب خلاف بين شباب حركة 25 يناير كانون الثاني وبين مراوغة العسكر نقل السلطة العسكرية الى الشعب وفق إعلان دستوري مؤقت ينظم المرحلة الانتقالية.
جاءت هذه التطورات بعدما دعا المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بياناته المواطنين إلى وضع حد للتظاهروالاعتصام، وتهيئة ما سماه المناخ المناسب لإدارة شؤون البلاد في هذه المرحلة، إلى حين تسليم السلطة للحكومة المدنية الشرعية المنتخبة التي تطمئن لها الأرادة الشعبية.
والعلة الواضحة في دساتير مثل هذه الدول أنها دساتير ورقية للقراءة، وتغيير فقراتها لايعني البته تغيير حقيقي للنظام، فقد حكمَ حسني مبارك وشلة من السُراق لثلاثين سنة بموجب الورقة الدستورية وتفسيراتها البالية وكانت هناك هياكل صورية كمجلس الشورى ومجلس الشعب ووزارات مصرية متعاقبة، كما كانت حقوق الأنتخاب الحر (مصانة) ليخرج بعدها الرئيس منتصراً بحصوله على %99 من أصوات الناخبين. فحق الأنتخاب هذا لايعني بالضرورة ديمقراطية، كما أن تعميم مفاهيم صحيحة للديمقراطية لاتعني بالضرورة أِيمان وألتزام القيادة السياسية بها، كما لاحظنا.
أن الموضوعية تتطلب منا الأعتراف بأن تغيير رأس النظام لايعني تغيير النظام، ولايُعرف كيف سيتصرف المجلس العسكري لضمان تحقيق أنتقال سلمي ديمقراطي فوّضه أليهم رئيسهم السابق!!! ومن ستكون في يده الصلاحيات أو أجزاء منها للحفاظ على نهج الديمقراطية وأجراء التعديلات دون مصادرة انتصار الشعب المصري!!!؟
وفي عهد مبارك ظلت الطبقة العسكرية تحمي النظام وكانت المنتفع الرئيسي من ثروة مصر وساهمت الصفوة العسكرية في مشاريع وعقود وأنشاء مصانع وأستثمارأموال مع شركات أجنبية في وقت كان معدل دخل المواطن المصري ولازال 2 جنيه يومياً.
الذين يمسكون الآن بدفة القيادة في مصر، ينتميون الى الصفوة العسكرية التي ألتقطها مبارك وتتبع تعليماته وتوجيهاته وقد انتفعت كثيراً خلال وجوده على رأس المؤسسة العسكرية و السلطة السياسية، والدلائل الأولية تُشير الى عدم شرعية تصرف رؤوساء وزراء سابقين، كعاطف عبيد وأحمد نظيف في قرارات بيع شركات أسمنتrlm;،rlm; وشركة طنطا للكتانrlm;،rlm; وشركة الأهرام للمشروبات وصفقات بيع أرض فنادق في بالإسكندريةrlm;،rlm; وبناء فيلات وعمارات على أرض مملوكة للقطاع العام. وسيمضي وقت طويل فبل الكشف عن وقائع فساد صارخة منسوبة لشخصيات بارزة في النظام السابقrlm; وتقاسمهم لخيرات أرض مصر كما لو كانت إرث أجدادهم، وصمتوا ( كعسكر السلطان )على أذلال مبارك لشعبهم وتجويعه ونهب ثرواته وتحويل أموالهم الى بنوك أجنبية وساهموا في حرمان الطبقات الفقيرة من أبسط الحقوق الأساسية.
فألى حين إجراء انتخابات في وقت لاحق ( ربما شهر سبتمبر أيلول من هذا العام أو بعده) وقد يلجأ العسكر الى سرقة السلطة من طبقات مصر الفقيرة وأجيالها من شباب فيسبوك Facebook الذين أشعلوا الثورة بعزيمة وأرادةrlm; تكللت بالنجاح السلمي. أن منع تسلط العسكر (الصفوة) على شؤون البلاد بعد 30 سنة وماسبقها من أنفرادهم بالسلطة منذ عام 1952 هو النقاش الدائر بين أوساط الخبرة السياسية والدبلوماسية ومؤسسات عسكرية وأستخبارية تهتم بأستراتيجية مصر القادمة وطبيعة مصالح مؤسساتها الحكومية وعلاقاتها الأقليمية والدولية، وهو نقاش ينطوي على تحليلات أفتراضية يشوبها القلق لِما هو متوقع وليس بالضرورة لِما سيحدث.
باحث سياسي وأستاذ جامعي
- آخر تحديث :
التعليقات