quot;أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام quot; (نصر بن سيار)

لم يدر بخلد محمد البوعزيزي عندما أضرم النار في جسده الشاب يأسا بأنه سيكتب تأريخا جديدا لوطنه، كما لم يدر بخلد الحاكم المطلق صاحب الجيوش والبوليس والمخابرات بأنه سيرتقي الطائرة بعد ساعات باحثا عن ملجأ.
بعد عقود من وهم القوة والسلطة .. هرب الرئيس خوفا من شباب استقبل الرصاص بصدره باحثا عن لقمة خبز وذرة حرية وكرامة معا في أتون كذبة اسمها المعجزة التونسية وسقط معه نموذج التنمية الفاشلة المحمي بدولة المخابرات بالضربة القاضية في درس بالغ القسوة لجميع دول المنطقة .
لم يرفع أولئك الشباب شعارا سياسيا شيوعيا أو إسلاميا أو ليبراليا، بل وأشك بأن المعارضة التونسية كانت حاضرة، وأنا على يقين بأن الجميع -كما هو الحال دوما- سيسعى لسرقة هذا الحراك الشعبي بما فيهم أركان السلطة أنفسهم.
اندفع الشباب الى الشوارع من كل لون وملة واتجاه بشعارات كتبت باليد في لحظة يأس وولادة معا من قبيل quot;يا حكومة عار عار، الأسعار شعلت نارquot; وquot; العمل استحقاق يا عصابة السراقquot; و الحرية كرامة وطنية quot; وquot; لا للاستبداد يا حكومة الفساد quot; وquot; الاراضي تباعت والأهالي جاعت quot; وما شابه معلنين سقوط النموذج المسلفن للتنمية الذي يخرجه البنك الدولي من الأدراج لمن يشاء من حكام العالم الأفقر المتلهفين لابتلاع القروض الدسمة البعيدة الأجل والاستثمارات الأجنبية الشكلية التي تبحث عن شركائها بين أباطرة السلطة وزوجاتهم وأخوانهم وأبناء عمومتهم بعيدا عن مشاكل البنية التحتية والبطالة واتساع حلقة الفقر التي لا تحوي مشاريعها عمولات دسمة أو أرباحا سريعة.
هذا النموذج للتنمية quot;الوحشيةquot; على طريقة العالم العربي إن صح التعبير ينتج نموا اقتصاديا ورقيا بأرقام تغذيها معادلات افتراضية غير واقعية غالبا، ويفتقد حس التوازن في التوزيع الجغرافي على عموم البلاد والتنمية البشرية وبناء الإستدامة التي لا تحققها سوى قوة العمل المحلية، المورد الوحيد غير القابل للنضوب. ولا أشك لحظة بأن الرئيس الهارب ومستشاريه الاقتصاديين والأمنيين لم يكلفوا أنفسهم عناء متابعة الجدل الذي يدور في اروقة دوائر المانحين والأمم المتحدة حول جدوى هذا النوع من النمو في غياب النمو الإقتصادي الفعلي الذي ينعكس أولا على حياة الشرائح الاوسع من المجتمع المتمثلة بالفئات الفقيرة والأشد فقرا.
وفي معادلة لا تستقيم تأريخيا ولا اقتصاديا، جاءت السياسة الأقتصادية quot;بالغة التحررquot; مقرونة بنظام قمعي بوليسي مخابراتي quot;بالغ القمعquot; مستندا الى نظام أبوي فردي يقوده الفرد الملهم الذي يرى ما لا يراه الآخرون، فلم يسلم منهم حتى مدونو الشبكة العنكبوتية ناهيك عن الناشطين والسياسيين والصحفيين والمعارضين وكل من تسول له نفسه فصل مفهوم الوطن عن شخص الحاكم.
لمن يقرأ التاريخ والاقتصاد، ولا أظن الحكام منهم، لا يمكن لرأس المال أن ينمو طبيعيا بدون حركة سياسية ليبرالية مرافقة تنتجها سياسات السوق والطبقات الجديدة التي تنمو وفق سياسات السوق وتدافع عن مصالحه وصولا الى عقد اجتماعي اجباري متمثل بالنظام الديمقراطي الذي يمثل نقطة التقاء تصالحية بين جميع الطبقات وحركاتها الساسية وصمام أمان ضد اندلاع النزاع الطبقي، أو انتفاض الفقراء إن شئت والذي شهدت تونس ذاتها عينات منه في 1978 و1980 و1984 من القرن الماضي. هذا التنظير بالطبع لا يراه ضابط الشرطة أو وكيل المخابرات أو بوق السلطة ولا المستشار الإقتصادي أو الحقوقي الذي يفصّل النظريات على مقاس حذاء الحاكم ولا تراه الحلقة المتزايدة من المنتفعين والطفيليات التي تعيش على التصفيق والتهليل، وبالطبع لا يراه كبيرهم الذي علمهم السحر.
وبغض النظر عما سيحصل في تونس لاحقا، فإن درس تونس البليغ لمن يجلس على كراسي الحكم بأن التنمية ليست أرقاما على الورق وبأن الخبز والحرية مترادفتان بشريتان وحق ستسعى الشعوب إلى انتزاعه عاجلا أم آجلا، وبأن الدعم الدولي عند اللعب على أوتار مكافحة الأرهاب والعلمانية ليس مطلقا ولن يصل حد الدفاع عن النظام أيا كان.
وإذ اشتعلت تونس، فإن النار في الجزائر لم تخمد بعد، وها هي الأردن واليمن تتظاهر جوعا، ومن الغباء التغاضي عن احتمالات مماثلة في مصر وبلدان أخرى، بل وحتى في العراق الغني الذي لا تخجل رئاساته الثلاث من اقتطاع دولارين من كل مئة دولارمن الميزانية تاركة ثمانية وتسعين منها للثلاثين مليونا الآخرين، وإيران التي انتفضت للحرية قبل أشهر متحدية كل الثقل الأمني والاعتباري للنظام هناك.
عجبتُ لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه، قالها علي بن أبي طالب قبل أربعة عشر قرنا، ويجيبه احمد أبو الغيط في القرن الحادي والعشرين معلقا على امكانية تأثر العالم العربي بأحداث تونس quot; كلام فارغ... كلام فارغ ، لكل مجتمع ظروفهquot;.
نعم لكل مجتمع ظروفه، إلا أن ظروف الجوع والكبت والقمع واحدة ..