إذا نظر المراقب السياسي إلى لوحة انتفاضة الشباب المصري الهادرة في ميدان التحرير وغيرها في كل شوارع وأزقات مصر المحروسة، لا بد له أن ينظر بانبهار وإعجاب شديدين لما أنجز على الواقع، ولم يتأتّ هذا المنجز من فراغ بل من إسالة الدماء وتقديم الضحايا على مذبحة الحرية التي حرم منها الشعب المصري العظيم منذ زمن بعيد، وبشكل أدق منذ ثلاثة عقود سوداء خلت.

فقد وصلت الأعداد المصرح بها من قبل الحكومة أكثر من 320 شهيداً إضافة إلى مئات الضحايا وعلى وجه الخصوص في يوم الهجوم البدوي البربري الصحراوي بالسيوف والأحصنة والجمال على جموع المنتفضين في ميدان التحرير المؤلف من مختلف شرائح المجتمع المصري بما فيها الأطفال والشيوخ.

واليوم وأمس تبدو عزيمة الشباب وباقي فئات المجتمع أكثر تصميماً على تحقيق الأهداف التي من أجلها اشتعلت نيران الثورة، ووضع المتضامنون هناك في مصر أو في أي مكان مع همة الشباب، أياديهم على قلوبهم حينما أوحى الإعلام الرسمي المصري المنحاز للدكتاتورية والحرس القديم، وبعض الإعلام العربي المحسوب على نظم الاستبداد في كل زمان ومكان بأن القاهرة تنفض الركام عن عيونها، وتنهض من جديد، حيث سرت الأخبار عن انتشار الجيش، وعودة الحياة الطبيعية إلى الشوارع، وعودة الموظفين إلى أعمالهم وفتح باب البنوك والمصالح الاقتصادية العامة والخاصة، واجتماع الأحزاب المعارضة مع نائب الرئيس عمر سليمان والتي لا تزيد وجوه بعضها أكثر من الأولاد والزوجة الصالحة، والأصهار والخؤولة أحياناً، وquot;الذي أثار الأسى ضحك سليمان على هؤلاء، وقدرته الفائقة على جمعهم في لقطة درامية تحت صورة الرئيسquot; وتسربت الأخبار المحزنة عن تململ الشباب في ميدان التحرير، بعد أن بحت أصواتهم، وتيبست أقدامهم وهم جالسون أو واقفون هاتفين برحيل الطاغية دون أن يرفَّ له جفن، ويترك البلد لأهلها، طالما أنهم لا يريدونه، وهو القائل من سنوات بأن قيادة الشعب المصري ليس سهلاً إن هو قرر أن يرحل الرئيس ndash; ليس المصري شواذ القاعدة- الذي يختصر بكل أسف الدولة والشعب والممتلكات في شخصه، ويحول البلد إلى مزرعة للأقارب والأهل والأتباع والذيول والمصفقين وو غيرهم كثر.

لكن كان للشباب بل لمجموع الشعب المصري كلام آخر، فالبارحة دعوا إلى اجتماع مليوني، وتحقق لهم ما أرادوا، وهذا يدل على أن الأحزاب التي سميت بالمعارضة في يوم ما، قد أفلست تماماً لأنه فيما سبق لم تستطع أن تحشد حتى رفاقها القليلين، وكنا نرى بعض التجمعات التي لا تربو على الخمسين شخصاً تهتف ببعض الهتافات غير المفهومة، وسرعان ما تضيع، وتبتلع من فم وحوش الأمن التي كانت تحسب حتى أنفاس بل وقبلات العرسان المصريين على قلتهم.

اليوم صار ميدان التحرير ملكاً للشباب المصري الثائر.. البطل، بل صاروا أكثر جهوزية وقدرة على الأخذ بزمام الأمور، وتحريك الجماهير، ودعوتها للاعتصام معها وإرسال رسائل الرعب إلى النظام الذي يتداعى، ويتهالك، ويبدو أنه اشتاق إلى رحلة استجمام طويلة على الأغلب، لكن ما يتطلب الحذر منه هو ألا تختطف هذه المنجزات الكبيرة التي حققها المنتفضون، فهاهي الأحزاب من طينة اللحى الطويلة، والحليقة والمرتدين خفيف الرداء لتناول الغداء مع الصالحين في دنيا البقاء، وكذلك الراديكاليين والمتغربين وو غيرهم كثر الرقم وقلة العدد، هذه الدكاكينquot; ريالها شاطةquot; على المكتسبات التي تحققت دون أن يكون لهم لا فول ولا طعمية فيها، ما عدا نوق وجمال بلطجية النظام، لذا الحذر منهم والتيقظ تجاههم واجب كل الوجب.

النظام حالياً يمر بأسوأ أيامه، ومع ذلك منسوب سقف التنازلات مازال قفراً وشحيحاً، ويبدو أن المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا لا يريد التفريط بالنظام حتى ولو رحل مبارك شخصاً، فيفترض توسيع رقعة الشعارات والمطالب، وإذا لم يرحل النظام كلياً يخشى أن يتبدد كل ما تحقق في ساحة التحرير وغيرها من السوح المصرية في جميع المحافظات التي تتلظى من حقدها على الطاغية، ولظاها أوار لا يخبو.

المطلوب القيام باعتصام مدني كبير يشل الحركة في جميع أرجاء الدولة حتى تتزلزل الأرض من تحت أقدام النظام وزبانيته، وهما كانت فاتورة التضحيات باهظة لن تكون أكبر من التي قدمت.

لأن التنازلات التي يشرف النظام على تمريرها بالقطارة للشعب، واستطاعت أ ن تشق بعض الصفوف الصغيرة، يجدر بأن يحسب لها الحساب، والتيقظ حيالها، لأن النظام ذكي ومراوغ وديماغوجي، وهو سينتقم كالوحش الجريح بحسب المفكر حسنين هيكل إذا تخلت الجماهير عن أهدافها، والأخطر م نكل هذا وذاك تركت ميدان الحرية.. ميدان التحرير.