بصيص الأمل في الانعتاق من ظلم وجور الأنظمة الدكتاتورية الذي رأته الشعوب العربية في ثورتي تونس ومصر، دفع بالبعض إلى المغالاة، والتحليق بعيداً عن الواقع والظروف الخاصة بكلّ بلد عربي، والقول بحتمية تكرار التجربتين، الثورتين، بين جميع الدكتاتوريات العربية وشعوبها، متناسين بذلك الظروف الخاصة بكل بلدٍ عربي، دكتاتوري، ومدى القمع الممارس فيه، وإن تساوى بين هذه الدول. أضف إلى كل ذلك أرضية ووقود الثورة، والذي هو دوماً الشعب، هل هو مهيّأ أم لا، وهل يمتلك آليات تحريك مناسبة تقوده إلى تحقيق أهدافه المنشودة وتطلعاته. وهذا القول ليس من باب التشاؤم وبث الإحباط في النفوس والهمم، فالإيمان بقدرة الشعوب يبقى أقوى من الإيمان بقدرة الدكتاتوريات على قهرها.
المفاجئة الكبرى التي أهداها الشعب التونسي لدكتاتوره والعالم، والتي فعلت فعلها مباشرة في مصر، حرّكت مشاعر الأمل لدى الجماهير العربية في باقي أقطار الوطن، ودفعتها إلى الاعتقاد، بل إلى الإيمان الأعمى بأن جميع الدكتاتوريات العربية آيلة للسقوط، الواحدة تلو الأخرى، وبأن العملية لا تخرج عن إطار الزمن.

في سوريا، مثلاً، خرجت دعوات ومناشدات، أغلبها كانت مجهولة الهوية، وكان الفيسبوك حاضراً فيها، تطالب الشعب السوري، بأطيافه وشرائحه المختلفة، لتفجير غضبها في وجه واحدة من أعتى الأنظمة الدكتاتورية، وهو نظام المملكة الأسدية. وتم الإعلان عن يومي الجمعة والسبت، المنصرمين، موعداً للغضب السوري quot;العارمquot;. أيام الغضب السوري مرّت، للأسف الشديد، بدون أدنى غضب. تُرى من السبب؟ هل نلوم دكتاتورنا أم اللوم علينا؟

لا شك أن النظام الأسدي استفاد إلى حدّ بعيد من تجربتي تونس ومصر، على صعيد القيام بما هو ضروري لتفادي وقوع مثيلهما في سوريا، فاحتاط جيداً، وعدّ من العدّة ما يكفي لترهيب وترعيب الشعب السوري، والتجهيز عليه، بلا شكّ، إذا ما استدعت الحاجة ذلك، وبالتالي قطع السبل أمام أي احتمالات للثورة والانتفاض، وفق منطقه وقناعاته على الأقل. لزيادة السوريين ترهيباً وترويعاً، ولضمان حماية لا نهائية لكرسيه، يقال ان النظام السوري استعان بأعداد كبيرة من مقاتلي حزب الله اللبناني! وجييشهم ضد الشعب السوري داخل قلاع الحرس الجمهوري، وكلّ ذلك في خطوات استبقاية لما كان من المأمؤل، والمتوقع عند الكثيرين، أن يحدث. بغض النظر عن أسباب استعارة النظام السوري واستعانته بمقاتلي حزب الله، سواء أكان ذلك لأجل ترهيب السوريين أم أنه لفقدان ثقة النظام برجالاته الأمنيين والعسكريين، خاصة بعدما رآه من رفض للجيش الانصياع للدكتاتور التونسي المخلوع بن علي، ووقوفه على الحياد، على ما يبدو، حتى هذه اللحظة، في مصر. بغض النظر عن جملة هذه الأسباب، ألا يفتح اعتماد النظام السوري على هؤلاء المقاتلين الباب أمام أسئلة كثيرة في موضوعات أخرى عديدة شائكة، تمسّ أمن واستقرار سوريا ولبنان، والمنطقة برمّتها، ومستقبل شعبي البلدين؟ ليست الإجابة على هذه الأسئلة هو الغرض من كتابة هذه السطور، ولكن الشيء بالشيء يذكر، كما يُقال، والذكرى تنفع المؤمنين.

تحرّكات وتجهيزات واستعدادت النظام السوري قبل وأثناء اليومين اللذين أُعلن أنهما للغضب والاقتصاص، لم تكن مستبعدة ومخالفة للتوقعات، ولم يكن تخمينها بحاجة إلى عقل وقّاد وبصيرة نفّاذة، وهو، بجميع الأحوال، ما كان سيقوم به أي نظام دكتاتوري آخر لو كان في مكانه. فالمستبدّ حين يحسّ بقرب أجله يفعل المستحيل من أجل البقاء، غير آبه بالنتائج، التي ستنجم عن عناده وتشبثه بمنصبه، والتي حتماً ستكون كارثية. انظروا إلى النتائج المترتبة على عناد حسني مبارك ورفضه الإذعان لمطلب المصريين له بالاستعجال في الرحيل.

النظام السوري فعل ما بوسعه فعله لمنع وقوع الحدث الجلل الذي كان ينتظره ملايين السوريين، ولكن هذا لا يبرّر، البتة، سبات غضب السوريين وبقاءه حبيساً في دواخلهم دون أن يجد النور. القول بأن الخطوات، الترهيبية والترويعية، للنظام نأت بالشعب السوري عن الانتفاض في وجهه، يحمل في طياته الكثير الكثير من الإهانة للسوريين، خاصة في هذه الأيام التي أصبح فيها معيار الشجاعة والكرامة والنخوة هو الوقوف في وجه الأنظمة الدكتاتورية. ألا يُضرب في الشعبين التونسي والمصري الآن المثلُ في الشجاعة والعظمة. ألا يستحق الشعب السوري أن يصبح كأشقائه مثلاً في الإيثار والتضحية من أجل الحرية.

لا يحقّ لأي سوري أن يتنصّل من مسؤولية ما كان يجب أن يحدث في سوريا يومي الغضب، أو أن يُلقي كلّ واحد بالمسؤولية على الآخر. الجميع مسؤولون على اختلاف وتفاوت درجات المسؤولية. وبما أننا تحدّثنا عن درجات المسؤولية عن غياب أي فعل أو تحرّك للشارع السوري ضد نظام البعث الدكتاتوري، لا بدّ من الإشارة إلى أن المسؤولية الكبرى، بل الخيانة الكبرى، في هذا العبور العادي المشين ليومي الغضب السوري، تقع على عاتق أولئك الذين يحلو ويطيب لهم أن يسمّوا أنفسهم معارضين للنظامين، أحزاب وتنظيمات بالدرجة الأولى، والشخصيات المعارضة المستقلة بدرجة أقل.

غالبية المعارضين للنظام الأسدي البعثي، بمن فيهم الأحزاب الكردية، تُعلن رفضها لأي تغيير للنظام قادمٍ من الخارج، وليس في هذا ما يعيبهم ويشينهم إن كانوا هم صادقين، ولكن الأوان آتٍ الآن لأن يأتي هذا التغيير من الداخل، لا سيما في ظل الظروف الراهنة، حيث الرعب والخوف ينخر قلوب الدكتاتوريات العربية، بعد أن نهضت شعوبها في وجهها، واستفاقت من سباتها، ونفضت عن نفسها غبار سنين من الذلّ والهوان. إذاً، لماذا الصمت والإحجام عمّا يمليه عليكم ضمير شعبكم السوري، يا من تدّعون حملكم للواء الحرية والديمقراطية في وجه النظام الأسدي؟ إلى متى ستعيبون النظام والعيب فيكم والعار عليكم؟ أما حان الوقت لأن تحطّموا قيود وأغلال خوفكم وذلّكم وجبنكم، وتُطلقوا لجام غضبكم وغيرتكم، ونخوتكم إن كنتم تملكون!؟

[email protected]