ما نشهده الآن، بأمّ أعيننا، من ثورات شعبية، عارمة، غير مشهودة، في منطقة الشرق الأوسط، إذا ما استثنينا ثورة الشعب الإيراني، في شباط عام 1979، والتي أسقطت نظام الشاه محمد رضا بهلوي، ضد أنظمة دكتاتورية مستبدّة، متكبّرة، متغطرسة، متعجرفة، لم نكن نجرؤ حتى على مجرّد تخيلها.

انتفاض الشعب الأعزل في مصر الآن، وقبلها في تونس، وبعدها قادم في دول عربية أخرى لا محالة، في وجه طغاة متجبّرين، بغوا، وتكبّروا، وأذاقوا شعوبهم الأمرين على مدى عقود من الظلم؛ تأكيدٌ على أن إرادة الشعوب قهّارة حين تتحد، وما عليهم إلا أن يستجيبوا القدر إذا أرادوا الحياة الحرّة الكريمة.

الشعب العربي الذي كان يُظن بأن الفاتحة مقروءة على روحه من قبل حكّامه، وبأنه متـأقلم مع حياة الذلّ والمهانة، مطأطئاً الرأس، خوفاً وخنوعاً، لسيوف جلّاديه، أثبت حتمية الفشل في الرهان على هزيمة الشعوب مهما بلغ أعداؤها ظلماً وجوراً وجبروتاً. هذا هو التاريخ يعيد نفسه، فالشعوب هي المنتصرة في النهاية، ومصير الطغاة، المستبدين، المتجبّرين، إلى الزوال ومزابل التاريخ، حتى وإن طال أمدّ ظلمهم واستبدادهم وجبروتهم.

الأنظمة العربية استبدّت، طغت وتجبّرت، نهبت وسلبت، ظلمت وأجحفت، انتهكت الحقوق والمحرّمات، مسّت كرامة شعوبها وأعراضهم، داست على رقابهم وأعناقهم بلا خوف من رقيب أو حسيب، بلا وازع من ضمير أو وجدان، بلا شفقة ولا رحمة. حكّام دكتاتوريون، مستبدّون، متسلطون، متجبّرون، متوحشون، تورّموا وانتفخوا كالفيّلة من التخمة، وشعوبهم لا تجد ما يسدّ رمقها وجوعها، عراةٌ ليس لديهم كسرة خبز ولا مأوى. دكتاتوريون ومستبدّون يعيشون في قصور منيفة، وشعوبهم تفترش الأرض وتلتحف السماء متقاسمين الأموات قبورهم! الأحسن والأيسر حالاً، من أنيس الأموات، لا يمتلك غير بيت شَعر أو بيت صفيح مرمي على أطراف مدن جلاديهم.

طفح الكيل بالشعب العربي بعد دهرٍ من الذلّ والخنوع والسكوت المشين على أعمال وأفعال الجلّادين. نهض وقام بعد أن ظنّ حكامه المتسبدون أن لا قائمة له. هو الآن ثائر ضدّ أنظمته، مفجّراً غضبه في وجهها. ليس في الأفق ما يلوح إلى احتمال التهدئة من جانب الشعوب العربية. الشباب العربي ينادي بالإصلاح والتغيير، وشعاره للحكام موحّد وهو الاستعجال في الرحيل ورفض المماطلة والتأجيل. بأول خروج للشعب العربي من قمقم الخوف تطيّر الدكتاتور التونسي quot;زين العربquot;، كما شاء لرئيس السلطة الفلسطينية الراحل، ياسر عرفات، أن يسميه في افتتاح كلمته بمؤتمر القمة العربية، السادسة عشرة، التي انعقدت في تونس. لم تنفع بن علي، المخلوع، جميع الحيل ومحاولات الخداع التي لجأ إليها لإخماد نيران غضب الشارع التونسي، الذي كان قد عقد عزمه على مواصلة ثورته المشرّفة حتى الإطاحة بالدكتاتور، وكان له ما أراد.

الدور الآن على فرعون مصر الذي لم تنفعه جماله وخيوله وبغاله. تمسكه وتشبثه بالكرسي يزيد من نفور ونقمة المصريين عليه، ويؤجج نيران ثورتهم وإصرارهم على المطالبة برحيله الفوري والعاجل. يا للعجب العجاب، ويا للعار أيضاً! يرفض مغادرة مصر وهناك من شعبها من يخاطبه عبر شاشات التلفزة قائلاً: quot;لو كان فيه حياء ونقطة دم لكان خرج دلوقتيquot;. مبارك يعلم بأن أيامه باتت معدودة؛ وبأن الإطاحة به باتت قاب قوسين أو أدنى، إن لم تكن اليوم فهي حتماً ستكون بعد انتهاء فترة ولايته، وفي الحالتين لابدّ من تسمية رحيله بالإطاحة، لأنه سيكون نتيجة حتمية لثورة الشعب المصري الراهنة، وليس عن طيب خاطر منه. همّه ورجاؤه الوحيد الآن هو أن يتلطّف عليه المصريون بتركه في البقاء بمنصبه حتى نهاية ولايته، والسماح له بالموت فوق تراب مصر! وهذا ما لا أظن المصريين بفاعليه وتاركيه.

أيام الدكتاتوريات في العالم العربي باتت معدودة، ومحاولاتها خداع شعوبها وتهدئة ثوراتها وانتفاضاتها، بالإعلان عن إجراء الإصلاحات وإحداث التغييرات المطلوبة، لن يُجديها نفعاً. هذا الكلام مستهلك، ولطالما سمعته الشعوب العربية، وهو يأتي يوم لا تنفع فيه توبة تائب. رياح الثورة والتغيير التي هبّت في تونس، وهي في مصر الآن، قادمة إلى دول عربية أخرى. العالم العربي يشهد اليوم ما يشبه الظاهرة، فالثورات والانتفاضات متنقلة. الشباب العربي الثائر، الغاضب، الواعد، التواق إلى الحرية والانعتاق من الظلم، هو محرّك المرحلة الراهنة، التي لن تستقرّ إلا بأنظمة حكم جديدة ديمقراطية، تضمن الحقوق الأساسية والحريات العامة لجميع شعوبها، ولا أظنّ أن يهدأ لهذا الشباب المناضل والمكافح بالٌ إلا بالإطاحة برؤوس جميع الدكتاتوريات العربية، عاجلاً أم آجلاً.


[email protected]