هذا الزلزال العربي، هذه اليقظة العظيمة، هذه اللوحة الرائعة تجعلني أقف مشدوهة. إني متفاجئة. بل مصدومة. كأني أعيش حلما جاءت ألوانه من الفردوس. نهضة شعبية لاعنفية إنسانية بهذا المستوى وبهذا الحجم في مصر، ومن قبلها إرادة الحياة في تونس. كل هذا يجعلني أريد كسر حروفي. فما يحدث أكبر من كل كلامنا وثقافاتنا. بل إن كلماتنا تتلعثم وثقافاتنا تحبو أمام الحدث العظيم الذي نشهده. كل منظوماتنا أصغر من أن تستوعب حجم ما يحدث. شيء ما انكسر إلى الأبد في العالم العربي. إنها صرخة الفتى العربي والفتاة العربية. لقد أرونا أن الامبراطور كان طوال الوقت بدون ملابس، وأرونا أن الشبيبة العربية قد تجاوزت المنظومات القومية والأيديولوجية والدينية. إنها نهضة الإنسان العربي بكل أطيافه. يمارس الحرية بدون أن ينتظرها ويقف في وجه الطاغوت بدون أن يرفع السلاح. إنها نهضة الديمقراطية، ونفحات الكرامة الإنسانية. فهل نعي أهمية وعظمة ما يحدث؟

هذه أهم لحظة في تاريخ العرب بعد هجرة محمد بن عبد الله من مكة إلى المدينة. هذا الرجل الذي لم نعرف ما فعله بعد أن أدمنّا عبادة السيف والبطولات وخطب الحجاج
أقف مثل إنسان في حالة صدمة يرى فيها مناظر حياته تمر أمامه مثل فيلم سريع. أرى تاريخ الحضارة العربية يتوالى متسلسلا أمامي. فبعد بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية ووصول محمد (ص) إلى المدينة برضى الناس وهم يغنون له quot;طلع البدر عليناquot; تم كتابة معاهدة المدينة والتي تعد أول معاهدة سياسية مدنية علمانية بالمعنى الحقيقي لأنها ضمنت التعددية الثقافية والدينية واشترطت الحماية والحقوق والواجبات المتبادلة بين أطرافها بغض النظر عن قبائلهم وأديانهم. بعد وفاته لم تمض سنوات قليلة حتى دخلنا في حلقات من اغتصاب السلطة وتهميش الشعب والمرأة والعالم والطفل ثم عندما quot;تقدمناquot; بدأ عصر الانقلابات فاعتدنا الغدر أسلوبا في الحياة، وعسكرة كل شيء بما فيه أزياء الأطفال، وتسفيه العلم، وبث العداوة والبغضاء. لحظة مفصلية عندما رفع أول طاغية عسكري السيف في تراثنا وقتل المولود الصغير الذي كان بدأ ينمو ليؤسس نحو الانتخاب والترشيح والتصويت في العهد الراشدي. هذه التجرية التي مهما كانت ضيقة النطاق صغيرة الأفق لم يسمح لها بالنمو. نقض معاوية ما قبله وسن التمديد والتوريث، ولم نعرف من حينها إلا هذا النموذج حيث يرفع معاوية يده ليقول: أمير المؤمنين هذا، مشيرا إلى الوريث، ابنه يزيد، ثم يقول ومن لم يقبل، فهذا، رافعا السيف. هذا ما عرفناه طوال قرون على المستوى السياسي. قد نكون أثرينا الحضارة الإنسانية بالعلوم، والأداب والفلسفة والفن المعماري، ولكن قمع آباؤنا بذرة الديمقراطية الصغيرة التي أنبتتها السنوات الأولى من الإسلام، فخسرنا أثقل ما في الناموس. بل إننا لم ندرك أن محمدا صنع دولته برضى الناس ووصل إلى المدينة بشهيدين فقط من طرفه، رجل وامرأة هما ياسر وسمية،، وبدون أن يقتل أحد من قريش. زمن صنع فيه العبد والمرأة التاريخ بكف أيديهم وإقام الصلاة. اللاعنف المكي. نسينا أيضا أن محمدا لجأ إلى عد الأصوات في أحرج قرار عسكري واجهه قبل معركة أُحد، نسينا أنه خسر التصويت أمام أصحابه وتجاهلنا أنه احترم قرار الأكثرية.

غيرنا ملابسنا ولهجاتنا ومؤسساتنا. لبسنا السروايل وربطات العنق. صنعنا أوقافا ثم أنشأنا برلمانات ومجالس شعب بدون إرادة شعب. وأما نحن النساء، فقد احتاروا بما يفعلوه بنا. كانوا يوئدوننا في التراب، فصاروا يوئدوننا تحت ركام ثقافة ذكورية أبت إلا أن تعبد السيف وثقافة الآباء، لأن السيف كما رأى آباؤنا كان بالنسبة لهم أصدق أنباء من الكتب. حجبّونا، برقعّونا، ثم خلعوا حجابنا باسم الحرية عنوة وقسرا، وبعدها أعادوه لنا ملونا ومزركشا باسم العداوة للغرب. ولم يستشرنا أحد. وبعض العرب يتساءل، هل يسمحون لنا بقيادة السيارات، أو التصويت في الانتخابات؟

ألا ترون كم أنتجنا من علوم، وقصور وجاريات غانيات. ولكننا حرقنا ومسخنا وأضعنا معارف الحرات، وهمّشنا ومسحنا من ذاكرتنا كل ما لم يكن متكيفا مع ثقافة الغي. بل قتلنا الحلاج وندرس أولادنا خطب الحجاج. ركبنا الخيول والجمال ثم ركبنا السيارات والطائرات. واستعملنا الهاتف والجوال والانترنت، وكل هذا تحت سيف معاوية، والحكم من بعده لابنه يزيد. حتى عندما أسسنا الجمهوريات، مددنا وورثنا وغيرنا الدستاير لأنه لا يوجد إلا يزيد ليحكمنا.

ولكن آه، شيء ما انكسر. فهذا صالح في اليمن من بلاد ملكة سبأ الحكيمة يأتينا الهدهد الإلكتروني بأخباره فيقول لنا إني وجدت رجلا يقول بصوت يرتعد، quot;لا تمديد ولا توريث!quot; أيا صالح، الآن قد عرفت أن هذا كان هو المشروع الأصلي لهذه الحضارة؟ لا تمديد ولا توريث ولا فرق لعربي على أعجمي، ولا لرجل على امرأة ولا لغني على فقير ولا لمثقف على أمي، ولا لمسلم على مسيحي أو يهودي أو بوذي. كلنا بشر سواء، ندعو بعضنا إلى كلمة سواء، لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا. العربي الآن لا يريد دولة دينية، ولا دولة اشتراكية، ولا دولة أيديولوجية. العربي الآن يريد دولة ديمقراطية، ودستورا مدنيا وقضاءا نظيفا وقانونا منصفا وثقافة حرة.

لأول مرة في تاريخنا تعود علامات الحياة إلى بلال، بلال الذي رزح تحت الصخرة التي وضعها عليه أسياد قريش. ها هو العملاق الأسمر يضع عنه ثقله ويقوم في مصر برقة بالغة، لا يؤذي، لا يدمر. يدافع عن الجيران والأصدقاء. الرجال والنساء والأطفال. كلهم سواسية، كلهم متضامنون. طلاب، فلاحون، أطباء، مهندسون، معلمات، عالمات، جدات وحفيدات. هذا العملاق الذي أخرسوه بالسيف أبى إلا أن يستيقظ بعد ليل دام أكثر من ألف وثلاثمائة عام. ها هو يختار أن يقف ويطل علينا من تونس والقاهرة، ولأول مرة نرى ملامحه الحقيقية. لقد استيقظ العملاق الأسمر ولن يعود إلى النوم. ولن يقفو على آثار آباءه الذين أضاعوا الحرية واللا إكراه. ولن يعود بمقدور أحد أن يعيده إلى النوم وكوابيس ليال مرعبة لبطولات فات أوانها. لقد فات وقت خالد بن الوليد وجاء عهد بلال. بلال الذي استعبدته الأسياد لقرون. إنه ابن الساعة، يعرف أن العلم والتكنولوجيا والتضامن والتكافل الاجتماعي هي أداوته الجديدة. لن يمتطي صهوات جياد خرجت من التاريخ، على عكس ما يفعل رجال الأمن والشرطة الذين يهجمون على المتظاهرين في ساحة التحرير من على الجمال والخيول، وكأنهم أشباح جاؤوا من ظلام ماضينا ليصطادونا من جديد. ولكن كما قال الشابي لا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر. ولا بد لفرسان الظلام أن يأفلوا في أفق مستقبل جديد. إنه مستقبل الديمقراطية. الديمقراطية التي ستعم العالم كله مثلما عم الانترنيت في كل مكان. ولكن هل نحن قادرون أن نعطي هؤلاء الشباب الذين يقدمون الحرية بأجسادهم الغضة إطارا واضحا وتضامنا سياسيا قويا بين قوى المعارضة؟ أم أن الشباب يصنعون شيئا عظيما ستركله ثقافة العروبة الذكورية النخبوية وتضيعه بين أرجلها المتنافسة على السلطة مثلما أضاع آباؤنا الذين على آثارهم ظللنا مقتفين ما كان قد صنعه محمد بن عبد الله، فأعدناها هرقلية وملكية وقبلية وذكورية؟ هل نحن قادرون أن نكون بحجم الكرامة التي يقدمها لنا أبناؤنا وبناتنا الشجعان؟

شكرا يا شباب مصر العظيمة وشاباتها. شكرا يا شباب تونس العظيم وشاباته. لقد أريتمونا أن إرادة الحياة أقوى، وأن الظلام مهما طال فلا بد أن يتبعه ضياء فجر جديد. والفخر لكم بأنكم أنهيتم ظلام ليل دام أكثر من ألف عام فكنتم أول من تصدّر الهجرة إلى الحرية في أرض العرب