فكرة الخلق من عدم، فكرةٌ قديمة جالت في وعي الإنسان مذ نضج هذا الوعي، وأمسى قادراً على التحليق في فضاء السؤال عن حقيقة الأشياء. وكان الوجود الخارجيُّ الماثل أمام حواسِّ الإنسان، المعضلةَ التي تتحدَّى عقله أبداً؛ فينفر إليها بما امتلك - بفضل تطوره الطبيعيّ عبر الزمن - من قدرة على التأمل والنظر والخيال والعلم، غيرَ مستنكفٍ من التساؤل لحظة واحدة: مَنْ خالقُ هذا الكون؟ وكيف؟ ولماذا؟.

وإنه لمن الموثوق به أنّ هذا التساؤلَ العقليَّ المولع بالمعرفة، كان من شأنه أنه أبدع فكرةَ الخالق أو الإله. وهي فكرة جذابة ما تزال تهيمن بجبروتها على الرغم مما حاق بها من النكال على أيدي الفلاسفة الماديين والعلماء منذ أقدم العصور إلى عصرنا هذا. ولعلنا نذكر في هذا الصدد رأي أرسطو في قدم العالم وامتناع حدوثه، ثم نذكر كيف اضطر أرسطو رغم اعتقاده بقدم العالم، إلى تصوّر محرِّك غير ماديّ يكون علّة وجود الكون وحركته؛ وذلك بعد أن عجز خيالُه عن استيعاب فكرة استمرار تسلسل العلَّة والمعلول إلى ما لانهاية.
وإذا كان معظمُ الأديان - ولا سيما الأديانَ الإبراهيمية ndash;، يخالف رأي أرسطو في قدم العالم، فإنه يتفق معه على وجود خالق أحدث الكون في لحظة غير معلومة من الزمان، من أجل غاية بعيدة لا تنالها مداركُ البشر. بيد أنّ معظم هذه الأديان، ينأى عن البحث الجديِّ في حقيقة الخالق، ويتحاشى السؤال عن كيفية وجوده مكتفياً بالقول بأزليته. والأزلية لفظٌ دالّ على القدم؛ أي على ما لا أوّلَ له؛ فينتج من ذلك أنّ الخالق عند معظم الأديان والفلسفات المثالية، قديمٌ لا بدايةَ له quot;موجودٌ غير مخلوقquot;. وهذه نتيجة منطقية بالإضافة إلى الفكر الديني؛ لأنه لا يصحّ أن يكون الخالق إلا كذلك؛ فما ليس أزلياً، كان عرضةً للزوال، وحاشَ للخالق أن يتعرَّض للزوال!.

وإذا كنا لن نجد تفسيراً لكيفية وجود الخالق عند معظم الديانات المعروفة، فإننا لا بدّ من أن نجده في الديانة الإيزيدية؛ وهذه الديانة هي واحدة من أعرق الديانات الشرقية، وهي فضلاً عن ذلك، الديانةُ الوحيدة التي ستنفرد ndash; حسبما وصل إلى علمنا ndash; بتفسير معضلة وجود الخالق تفسيراً مدهشاً ظلّ إلى وقت قريب مستهجناً غريباً في نظر أتباع الديانات الأخرى، حتى قيّضت له نظريةُ الخلق العلمية الجديدة، أن يحظى بالاهتمام والتأمل، وبجلاء الهجنة والغرابة عنه.
ترى الديانة الإيزيدية أنّ (خودان) الذي يقابل الله في الديانات الإبراهيمية، هو خالق الكون وما فيه من الموجودات. وما هذه الرؤية إلا تصوراً عاماً لا ينازع تصوراتِ الأديان الأخرى ولا يجافيها. غير أنّ فكرة خَلْقِ (خودان) لذاته من العدم (على الأرجح) ستكون نسيجَ وحدها في الديانة الإيزيدية، وستصطدم بعقيدةِ أزليةِ الله الثابتة في الديانات الأخرى، وبآراء الفلاسفة الذين يصرّون على استبعاد فكرة الخلق من عدم.

تتجلّى فكرةُ الخلق الذاتي من العدم بلفظها الصريح وإنشائها البديع في دعاء (طاووس ملك) الذي أدرجه الأستاذ كاظم حبيب في كتابه (الإيزيدية ديانة قديمة تقاوم نوائب الزمن) نقلاً عن كتاب الأستاذ خليل جندي (نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية):
يارب ! أنت الذي خلقت نفسك بنفسك quot;
يارب ! أنت خلقت الحوت، وأنت معطي القوت
أنت الحليم الملكوت، أنت عالم العلماء
......
يارب لالون لك، لالحن لك ولاصوت
أنت الغوث، وأنت المدد
يارب لايدري أحدٌ كيف أنت
......
يارب! أنت حاكم الملوك والفقراء
أنت حاكم جميع العالم
أنت الذي وضعت التوبة على آدم
وأتيت بعيسى بن مريم
يارب أنت خلقت نفسك بنفسكquot;.

وإذا كانت فكرة الخلق الذاتي مستنكرة في الأديان الإبراهيمية - كما سبق أن ذكرنا - وغريبة في نظر الفلاسفة، فإنها ليست كذلك في نظر عالمي الفيزياء الكونية ( هاوكينغ) و (هارتل) اللذين تمكّنا من وضع نظرية علمية جديدة بفضل إنجازات الفيزياء الكوانتية المتطورة، وبفضل ما استعانوا به من معادلات رياضية مجردة فائقة الدقة، تقول باحتمال أن يكون الكون بمعناه الشامل، قادراً على خلق ذاته من الفراغ والعدم.

إنّ هذه النظرية تنطبق بحدِّها الجوهريّ القائم على مبدأ (الخلق الذاتي التلقائي من عدم)، على العقيدة الإيزيدية؛ فكلتاهما؛ العقيدة والنظرية، تتشاركان في جوهر واحد ينمُّ عن فكرة الخلق من عدمٍ، أو عن خلق ذاتٍ لذاتها بصورة تلقائية.

بيد أننا هنا يتوجب علينا ألا نتسرَّعَ في الجمع بينهما على كلّ حال، بل علينا أن نفطنَ للحدود الأخرى التي يفترقان عندها، ولا يتشاركان فيها: من ذلك أنّ مفهوم العدم في الإيزيدية، مفهومٌ ديني يقابل مفهومَ الوجود، ويفيد معنى (اللَّيس) أو اللاشيء مطلقاً. غير أنه ليس كذلك في الفيزياء الكوانتية التي تؤكِّد أزليةَ المادة، وأنّ (اللاشيءَ) ليس عدماً خالصاً، وإنما هو فراغ لا يخلو من وميض الطاقة ولا من المادة في أدقّ أدقّ صورها.