سوريا
quot;أحزاب الجبهة الوطنية التقدميةquot;
في الجزء السابق(الثاني) من البحث تناولنا مواقف وسياسات quot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot; الحاكم تجاه الأقليات وطريقة تعاطيه مع ظاهرة التنوع في البلاد.وقد بينا كيف دخلت سوريا ومسألة الأقليات مع انقلاب البعث عهداً سياسياً جديداً،اتسم ومازال بالاستبداد (القومي والسياسي والثقافي) للشعوب السورية الغير عربية،مثل الآشوريين(سريان-كلدان) والأكراد والأرمن وغيرهم.في هذا الجزء(الثالث) من البحث سنلقي الضوء على رؤية quot;الأحزاب السوريةquot;، تلك المنضوية في جبهة البعث المسماة بـquot;الجبهة الوطنية التقدميةquot; من quot;مسألة الأقلياتquot;،التي مازالت على هامش الأجندة والمطالب السياسية لمعظم فصائل الحركة السياسية السورية، رغم أهميتها وارتباطها المباشر بقضية الديمقراطية وبحقوق المواطنة المنقوصة في البلاد.
لأجل تقوية سلطته وتشديد قبضته على quot;المجتمع السياسيquot; السوري، شكل الرئيس الراحل(حافظ الأسد) quot;الجبهة الوطنية التقدميةquot; في آذار 1972ضمت العديد من الأحزاب السورية من اتجاهات سياسية ومنابت فكرية مختلفة،هي(البعث العربي الاشتراكي، الشيوعي السوري، الاتحاد الاشتراكي العربي، الوحدويين الاشتراكيين، حركة الاشتراكيين العرب،الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي،الاتحاد العربي الديمقراطي).عام 2005 انضم الى الجبهة أحد فصائل الحزب السوري القومي الاجتماعي،وعام 2004 انضم (حزب العهد الوطني- المتفرع عن حركة الاشتراكيين العرب).تجربة العقود الماضية من عمر الجبهة الوطنية، أثبتت وبشكل قاطع بأن هذا الاطار السياسي لم يكن سوى quot;واجهة تجميليةquot; لنظام غير ديمقراطي ولدكتاتورية مهيمنة.بتعبير آخر،أنها جبهة مفرغة من أي مضمون أو محتوى سياسي، لنظام الحزب الواحد الشمولي،ممثلاً بحزب البعث العربي الاشتراكي،الذي احتكر السلطة والثروة في البلاد و فرض نفسه قائداً للدولة والمجتمع وفق quot;المادة الثامنةquot; من الدستور الذي وضعه.فبمجرد قبول الأحزاب الجبهوية بالميثاق البعثي للجبهة، الذي يقر quot;بأن منهاج حزب البعث ومقررات مؤتمراته موجه أساسي للجبهة في رسم سياستها العامة وتنفيذ خططها وبقيادة البعث للجبهة من خلال تمثيل الأكثرية ( النصف + 1 ) إضافة إلى احتكار البعث للعمل في مجالي الطلبة والجيشquot;،يعني بشكل واضح وصريح تخليها عن الكثير من حقوقها السياسية والديمقراطية وتحولها الى أشباه أحزاب،رهينة،مسلوبة الإرادة والقرار، تدور في فلك السلطة، لقاء منحها بعض المكاسب والامتيازات الحزبية والشخصية(تمثيل شكلي في الحكومة ومجلس الشعب وفي بعض دوائر ومؤسسات الدولة).اذ، لا من دور فعلي يذكر لأحزاب الجبهة الوطنية في الحياة السياسية لسوريا، وهي مستبعدة كلياً من أي مشاركة حقيقية في السلطة والحكم والإدارة وفي رسم السياسات الداخلية والخارجية للدولة السورية.لهذه الأسباب وغيرها،خسرت الأحزاب المنضوية في جبهة البعث الكثير من رصيدها السياسي،حتى أمست اليوم مجرد quot;يافطات سياسيةquot; من غير جماهير ومن دون رصيد شعبي في المجتمع السوري. تعتاش على ما يقدمه لها البعث من دعم مادي ومعنوي.وهذا يفسر تمسكها وحرصها الشديد على بقاء الجبهة، أكثر من حزب البعث نفسه.طبعاً،أحزاباً تخلت عن حقوقها السياسية والديمقراطية ورهنت قراراها لسلطة قمعية،لا ينتظر منها الدفاع ليس عن قضايا الحقوق المصادرة للأقليات فحسب، وانما لا يؤمل منها الدفاع حتى عن حقوق الطبقات الاجتماعية المسحوقة وعن قضاياها الأساسية، مثل القضايا المعيشية والاقتصادية وحق العمل والرعاية الصحية.من هنا يجب أن نتفهم موقف أحزاب الجبهة الوطنية من مسالة الأقليات في سوريا، الذي يتسم بكثير من السلبية والرجعية، والمتماثل الى حد كبير مع موقف حزب البعث.ويجب أن ندرك بأنها ستبقى على تخاذلها النضالي وعلى مواقفها السلبية من مجمل القضايا والمسائل، لطالما هي داخل الجبهة وملتزمة بميثاقها، المستوحى من quot;دستورquot; ومبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي،الذي يتسم بنزعة شوفينية وعنصرية واضحة تجاه كل من هو غير عربي.فقد خلا quot;الميثاقquot; من أي إشارة الى ظاهرة التعددية القومية والاثنية واللغوية والدينية التي يتصف بها المجتمع السوري.
من غير أن نغفل أو ننفي تأثير النَزَعات القومية والاثنية والعصبيات الأخرى، التي تنامت بشكل قوي داخل المجتمع السوري،على أداء وتماسك الحزب الشيوعي السوري.لكن تخلي الحزب عن مسؤولياته الوطنية والأخلاقية في الدفاع عن حقوق ومصالح الفئات والشرائح السورية المحرومة والمسحوقة،عمقت الخلافات والتناقضات السياسية والفكرية المتجذرة في البنية الفكرية والتنظيمية للحزب،وتسببت بحصول سلسلة انقسامات في صفوفه، بدأت عام1972 وتلاحقت حتى التسعينات ولم تنته مفاعيلها بعد على مسار الحركة الشيوعية السورية،التي تتكون اليوم من العديد من الفصائل والتيارات الماركسية واليسارية،تفرعت عن الحزب الشيوعي السوري الأم.بعضها (جناح خالد بكداش وجناح يوسف فيصل) انضم الى جبهة السلطة،وبعضها الآخر (جناح رياض الترك) التحق بصفوف المعارضة الوطنية و شارك في تأسيس( التجمع الوطني الديمقراطي) المعارض.أما المنشقين الجدد (وحدة الشيوعيين السوريين)، وان هم خارج جبهة البعث، لكنهم (ملكيون أكثر من الملك) فيما يخص موقفهم من الحكم القائم في البلاد.
ثمة تباين بسيط بين موقف (أحزاب القومية العربية) والأحزاب اليسارية(الشيوعية) الجبهوية، من مسألة الأقليات ومن ظاهرة التنوع في سوريا.فبينما تبارك الأحزاب العربية، سياسات التمييز القومي لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم وتؤيد نهجه القومي الشوفيني وإجراءاته العنصرية تجاه القوميات الغير عربية،وهي،كما البعث، تثير الشكوك بوطنية وانتماء كل من يثير مسألة الأقليات.فيما الأحزاب الشيوعية، وان هي التزمت وتلتزم الصمت حيال عمليات التعريب والمشاريع العنصرية للبعث،تبدو مستاءة من هذه السياسات المتناقضة مع مفاهيم وحقوق المواطنة.لا شك، أن تخاذل الشيوعيين في الدفاع عن حقوق الأقليات، خيب آمال نخب ومثقفي الأقليات،الآشورية والكردية والأرمنية وغيرها، التي انخرطت في الأحزاب الشيوعية،اعتقاداً منها بأن الأحزاب والقوى الماركسية،التي تقر مبادئها وعقيدتها السياسية بالمساواة الكاملة بين الشعوب والقوميات في الوطن الواحد وبحق تقرير المصير لجميع شعوب وأمم العالم،ستكون سنداً لها في الدفاع عن قضاياها الاجتماعية والسياسية و سبيلاً لرفع الظلم والحرمان القومي الواقع عليها.أن بقاء quot;خالد بكداشquot;،المتحدر من أصول كردية،على رأس الحزب الشيوعي السوري لعقود طويلة- بعد رحيله تزعم الحزب زوجته ومن بعدها أبنه-، الى جانب اتساع دائرة الفقر والحرمان والشعور بالقهر في المجتمع الكردي،شجع الكثير من الأكراد السوريين على الانضمام الى الحزب الشيوعي،حتى طغى العنصر الكردي على الحزب في منطقة الجزيرة،رافقه نمو quot;نزعة كرديةquot;واضحة داخل الحزب.الأمر الذي أثار حساسية وامتعاض الشيوعيين من ابناء القوميات الأخرى،مثل الآشوريين(سريان/كلدان) والعرب والأرمن وانسحاب الكثير منهم من صفوف الحزب.وهذا يفسر خلو (منطقية الجزيرة - فصيل خالد بكداش) تماماً من العنصر الآشوري والعربي والأرمني.وبات البعض ينظر لمنطقية الجزيرة على أنهاquot;فصيلاً كردياًquot; بامتياز.ومن المتوقع أن تشكل، بمجرد انفراط الجبهة الوطنية،مع الشيوعيين الأكراد من المحافظات الأخرى، نواة للحزب الشيوعي الكردي في سوريا.
في ثمانينات القرن الماضي، طرأ تحول ايجابي نسبي على موقف الأحزاب الشيوعية الجبهوية من مسالة الاقليات،بإدراجها quot;الحقوق الثقافية واللغويةquot; للأقليات ضمن مطالبها،مع انحياز واضح للقومية الكردية.وبدا الحزب الذي يتزعمه (يوسف فيصل) أكثر انفتاحاً على ظاهرة التعددية في البلاد.وكان هذا الفصيل الشيوعي قد خطى خطوة سياسية مهمة على صعيد مسألة الأقليات في سوريا،لكن سرعان ما تراجع عنها تحت ضغط وتهديد قيادة البعث الحاكم.فقد جاء في باب (المهام البرنامجية) للحزب، المقررة في (مؤتمره الخامس) المنعقد في دمشق ايار 1980:quot;مقاومة كل تمييز على أساس الانتماء الديني أو القومي. وضمان حقوق الأقليات القومية بشكل يقوي ارتباطها التاريخي بالوطن ويوطد وحدة الكادحينquot;.وفي وثائق (المؤتمر السابع) الموحد للحزب الشيوعي،الذي ضم (منظمات القاعدة،التابعة لمراد يوسف، والحزب الشيوعي،جناح يوسف فيصل) تشرين الأول 1991. جاء في باب (القضية القومية): quot;نؤكد على حقوق الشعوب والقوميات الأخرى التي تقطن هذا البلد العربي أو ذاك، وضمان الحقوق القومية الطبيعية لها بدءاً من الحقوق الثقافية والمساواة أمام القانون حتى حق تقرير المصير. فيما يتعلق بسوريا فنحن نرى أن الأكراد وغيرهم من ابناء القوميات الأخرى هم متساوون مع جميع المواطنين الآخرين بموجب الدستور ومن الضروري أن تتأكد هذه المساواة في الممارسة العملية،وأن لا يجري ضد أحد منهم تمييز على أساس الانتماء القومي ويجب أن تضمن لهم حقوقهم الثقافية وتقاليدهم الشعبية وأن يكون لهم حق دراسة لغتهم القومية...إعادة حق المواطنة الى المواطنين الذين حرموا من الجنسية السورية نتيجة إحصاء 1962 في محافظة الحسكة..احترام المعتقدات الدينية ورفض كل أشكال التمييز والتعصب الديني والطائفي...quot;.على خلفية هذه الخطوة أو القفزة السياسية وبسبب مواقف سياسية أخرى، تعارضت مع نهج وسياسات البعث الحاكم،عُقب(الحزب الشيوعي السوري/جناح يوسف)بتعليق عضويته في الجبهة الوطنية التقدمية. ولم يعاد اليها الا بعد أن تراجع عن كل ما جاء في الوثائق الحزبية المشار اليها واعتذاره رسمياً عنها، عبر رسالة بعث بها أمينه العام الى الرئيس quot;حافظ الأسدquot;باعتباره رئيس اللجنة المركزية للجبهة الوطنية.بعد هذا التصادم السياسي مع حزب البعث،تراجعت مواقف هذا الفصيل الشيوعي من مسالة حقوق الاقليات الى المربع الأول.ففي لقاء جمعنا(وفد من المنظمة الآشورية الديمقراطية) مع السيد (يوسف فيصل)، الأمين العام للجنة المركزية للحزب، في مكتب الحزب بدمشق عام 2003، قال يوسف:quot;لا يوجد مشكلة قوميات، أو (مشكلة كردية) في سورية، القضية بالنسبة لنا هي قضية حقوق ثقافية وحقوق مواطنة كاملة لجميع أبناء القوميات من أكراد وآشوريين/سريان، وأرمن وغيرهم... ومنح الجنسية السورية لكل من يستحقهاquot;.انسجاماً مع هذا الموقف، اكتفى quot;التقرير السياسيquot; للحزب في مؤتمره العام العاشر، نيسان 2006 بالمطالبةquot;بحل مشكلة الإحصاء في محافظة الحسكة ومنح الجنسية لمن جرى حرمانهم منها في عام 1962 والاعتراف بالحقوق الثقافية لأبناء الشعب الكردي في اطار المواطنة.quot; دون أن يذكر التقرير القوميات الأخرى،مع الإشارة الى وجود أحزاب كردية وأخرى آشورية في سوريا. بهذا الموقف من مسألة الأقليات اقترب كثيراً من موقف الفصيل الشيوعي الآخر من هذه القضية.فقد جاء في التقرير السياسي الصادر عن (المؤتمر العام العاشر- تشرين الثاني 2005) للحزب الشيوعي،فصيل بكداش: quot; يطالب الحزب بالاعتراف بالحقوق الثقافية للأكراد وللأقليات القومية،من تعليم لغتها وإصدار مطبوعاتها بلغتها الأم.تعزيز التآخي والوحدة الوطنية بين ابناء الشعب السوري كافة،وتحقيق حقوق المواطنة لكافة سكان البلاد.والعمل على إلغاء النتائج السلبية للإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة الذي أجرته الدوائر الإقطاعية الرجعية في ظل حكومة الانفصال عام 1962.quot;.
لن نتوقف عند الحزبquot;السوري القومي الاجتماعيquot; المنضوي في الجبهة الوطنية.فهو فصيل صغير منشق عن الحزب الأم، تخلى عن الكثير من المبادئ والثوابت الأساسية للسوري القومي الاجتماعي.دخل جبهة البعث عام 2005، طمعاً ببعض المكاسب الحزبية والشخصية الضيقة.لذا،سنتناول في حلقة أخرى بشيء من التفصيل الفلسفة القومية لـ quot;الحزب السوري القومي الاجتماعيquot;الأساسي، الذي يعتبر أحد الأحزاب السورية القديمة والعريقة، ويتميز برؤية متقدمة لظاهرة التنوع في المجتمع السوري ولحل مسألة الأقليات في دول بلاد الشام،التي يسميها الحزب بـquot;سوريا الكبرىquot;.
باحث آشوري مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات