عمليا يمكن الجزم بتجاوز الشعوب العربية لاصطلاح الظاهرة الصوتية، فما حدث في تونس ويحدث حاليا في مصر يؤكد أن quot;للصبر حدودquot; وهو صبر على الطغيان والبؤس والجوع والفقر وانتهاك الحقوق الإنسانية، قد لا أتحمس كثيرا للكتابة عن شأن في إطاره الحدثي، ولكن الصورة في الحالتين المصرية والتونسية متفاعلة وتؤكد أن هناك تغييرا حقيقيا يمكن أن تقوم به الجماهير حين تتملكها الإرادة لذلك، وخلاصة كل تفاعل أو تحرك عربي بعد نفاد الصبر مبعثه الوصول الى العظم فيما يتعلق بالحقوق الإنسانية الأساسية، فأنا على قناعة بأن هذه الحقوق منتقصة في غير بلد عربي بفعل السلطة، وحتى تلك التي تمارس فيها الديموقراطية كمصر تعاني خللا واضحا في المفهوم الديموقراطي ولا أتصور أن بلدا يحكم بقوانين الطوارئ منذ العام 1981م بمقدوره أن يدعي ممارسة الديموقراطية بكل معطياتها ببساطة وكأنها منّة أو هبة سياسية من سلطة حاكمة لشعب مغلوب على أمره.

عاطفيا يمكن تصوير ثورات تونس ومصر كتعبير عن صياح البطون الفارغة التي اعتادت السلطات ملئها بالشعارات بدلا عن الخبز، وواقعيا يتصاعد الأمر ليعود الى ما ذكرته حول انتهاك الحقوق الإنسانية في التعبير، إذ قد تصمد الشعوب جيلين أو ثلاث أمام طغيان الأنظمة الحاكمة ولكن بعدها يحدث التغيير والثورة الشعبية والملل الجماهيري ويكون واقع الحال بعدها quot;يا روح ما بعدك روحquot; إما خلع الحاكم أو خلعه، فكتم الأنفاس من خلال المباحث أو أجهزة المخابرات وأمن الدولة ليس سلوكا ذكيا لأي سلطة سياسية تحترم الخيارات الشعبية، لأن ذلك يعمق الفجوة ويضعف التواصل بين الحاكم والمحكوم وحين يحدث ذلك تبدأ نهاية السلطة السياسية وبدء عهد جديد.

لم يصل المصريون والتونسيون الى ما وصلوا اليه من الانفجار والغضب والثورة والغليان لأنهم يرغبون في التغيير لمجرد التغيير، وإنما بسبب تراكمات سياسية فاشلة، حين يكون الحاكم ناجحا وعادلا لن يحتاج للأجهزة الأمنية إلا بالقدر الذي يضبط أمن المجتمع من تفلتات المجرمين، وحتى هؤلاء لن يكونوا سوى قلة غير مؤثرة كثيرا في تهديد الأمن الاجتماعي، وليس بالضرورة أن تكون الصورة مثالية على هذا النحو خاصة وأنني أتحدث في السياق العربي، ولكن تكفي الحدود الدنيا من بذل مجهود عادل في تأكيد احترام إرادة الجماهير والعمل الجاد من أجل مصلحتها دون فجوات أو مساحات تصنعها البطانات الفاسدة والانتهازية حول الحاكم ليصبح ذلك الحاكم أو الزعيم قريبا من نبض الشعب وواضحا وصريحا معه في كل قرار أو خطة أو منهج لإدارة البلاد، ولن تكون الخطب الرنانة في البرلمانات واللقاءات الجماهيرية العشوائية بديلا عن الاقتراب المباشر منها.

في مصر يطالب المحتجون بتنحي الرئيس حسني مبارك، واستقالة رئيس الوزراء أحمد نظيف، وحل البرلمان، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ويشكون من ارتفاع أسعار الغذاء، ونقص الوظائف، والحكم المستبد، وذلك حق مشروع أصالة وبداهة، لأن حرية التعبير لا يمكن حبسها بقمع أمن الدولة، ولا يمكن أن يتسامح الشعب للأبد وهو يضرب كل يوم في مكاتب الأمن في قفاه وهو يحتسب، ذلك امتهان متعمد ومقصود لكرامة الفرد والشعب، وحين تفعل أجهزة الحاكم ذلك فعليه أن يرحل مبكرا ويوسع السكة للطوفان والتغيير.
وزارة الداخلية المصرية أعلنت أنها لن تتسامح مع المظاهرات إذا استمرت لليوم الثاني، أي أنها ستقتل وتزهق الأرواح عند أي تجمع، وذلك خطأ مؤكد، فإذا كانت إرادة المتظاهرين بالحجم الذي يدفعون فيه الأرواح من أجل التغيير، فإن الوزارة المعنية بأمنهم تصبح جلادا غير أخلاقي، وفي الواقع كل تصرفات الأجهزة الأمنية تجاه المتظاهرين غير أخلاقية، ولكن المؤسف في ذلك هو ذلك التناقض الفاضح بين تصريحات الداخلية ورئيس الوزراء أحمد نظيف التي قال فيها إن الحكومة ملتزمة بالسماح بحرية التعبير بالوسائل المشروعة، وبصرف النظر عن كلمة المشروعة، إلا أن ذلك الحق لم يتم السماح به، وعليه فإنه يؤكد أن الحق بجانب المتظاهرين الذين يصرخون بأعلى أصواتهم بأنهم جائعون وعاطلون، ومن يكون على هذه الحال لن توقفه تهديدات الداخلية أو أمن الدولة.

ينبغي التأكيد على أن الواقع أكثر وضوحا مما يرشح على الفضائيات ومواقع الشبكة العنكبوتية التي طالتها أنظمة الحجب، فالغضب الشعبي لن ينتهي إلا بخلع الرئيس مبارك وذلك استخلاص منطقي لما يمكن أن يكون في إطار ضيق المعالجات التي يمكن أن يقوم بها النظام الحاكم لاحتواء غضب الشعب، كما أن مجرد إساءة التعاطي مع ذلك الغضب يعطي مؤشرا بانهيار السلطة، وذلك يعني ارتكاب حماقات حقوقية سيئة للغاية الى الحد الذي يدعو المنظمات الدولية لكف يد الأجهزة الأمنية عن بطش الشعب، وذلك يعني غياب الفكرة الأخلاقية التي تنبثق عن الحقوق الإنسانية التي أضاعها النظام الحاكم وابتعد بعيدا عن الشعب ليحدث الفراغ بين الطرفين والذي يعني الطلاق ونهاية الرئيس والنظام وبداية عهد جديد.

إعلامية سعودية*