جميع الأباطرة والاستبدايين والديكتاتوريين في التاريخ يخرجون من بين الفقراء والمظلومين، ويصعدون على أكتاف الجماهير العريضة، باسم الأمة، وباسم الحرية والعدالة والمساواة، ومن أجل رفع الظلم عن الشعوب، وتحقيق المساواة، ومحاربة الفساد، وإقامة دولة القانون. يتمسكنون، وحين يتمكنون يبدأون بالذبح الحلال.
وأقرب مثال على ذلك صدام حسين. فهو لم يصبح ديكتاتورا من أول أيام دخوله القصرَ الجمهوري مساعدا لابن عمومته أحمد حسن البكر، بل، ومثلَ سابقيه، بدأ مسيرته السلطوية بوداعة ورقة ونعومة، مكتفيا، في أيامه الأولى، بالتواري وراء (الأب القائد)، مخفيا شهوته الكاسحة للتفرد بالسلطة، وراء ابتسامة هادئة، وروح سمحة متواضعة، وشعار سلطة القانون، وعطف كبير على الفقراء والبسطاء، يستقبلهم في مكتبه، ويفتح لهم هواتفه، ويأمر بتلبية مطالبهم على الفور، ويرفع عنهم ظلم رفاقه الآخرين، ويزورهم في منازلهم، يفتح ثلاجاتهم، ويأكل من زادهم، ويشرب من مائهم، على شاشات التلفزيون.
ولم تنبت أظافرُه الجارحة وأنيابُه الذابحة إلا بعد أن بسط يديه، تماما ونهائيا، على جهاز المخابرات، واستكمل فيه زراعة أتباع مخلصين لحد الموت، لا للحزب، ولا للنظام، ولا للأب القائد، بل لشخصه، هو، دون سواه.
وبتضحيات سعدون شاكر وناظم كزار ومحمد فاضل وبرزان وغيرهم من رفاقه المُجربين لديه من أيام النضال السري، والمتفوقين في الشطارة بالاغتيال والتآمر والتجسس والغدر والاقتحام، بدأ السيدُ النائب مسلسلَ تسقيط خصومه، واحدا بعد واحد، خارج الحزب وداخله، لحماية ثورة الجماهير الكادحة من المتآمرين.
ومن المخابرات، وبالمخابرات، راح يمد أذرعه الطويلة ليلتهم المؤسسات المهمة والحيوية الأخرى التي تجعل من يملك زمامها ينشر عباءته على الدولة كلها، دون منازع، ويُساقط قادتها المناوئين لسلطته، بمختلف الذرائع والتهم والأساليب. فقد ورط مديرَ الأمن العام، صديقـَه وحليفـَه الجميم ناظم كزار بالتآمر على الحزب والثورة، ليُعدمه، وكلَ رفاقه ومساعديه، رميا بالرصاص في ساحة القصر الجمهوري. ثم بعد أن تحقق له ذلك، مد خيوطه الجهنمية إلى المكتب العسكري التابع للحزب، ومنه إلى فصائل الجيش المختلفة، وراح يزيح القادة والضباط غير المؤتمنين، ويضع مكانَهم أولاد أعمامه وأولاد أخواله وأقاربه الآخرين، وكلهم من أهل العوجة، مثل علي حسن المجيد وحسين كامل وعبد حمود وماهر عبد الرشيد وحسين رشيد التكريتي وصدام كامل وأرشد ياسين وكمال مصطفى، وبقية القائمة الطويلة المعروفة لدى جميع العراقيين.
ثم وضع مكتب الإعلام القومي في جيبه، فامتلك جميعَ أجهزة الإعلام، صغيرها وكبيرها، وهيأها لخدمته وتلميع صورته، عندما تحين الساعة. ثم، وبهذا الجيش من الأعوان، تمكن من احتلال باقي المؤسسات العامة الأخرى كلها، خطوة خطوة، إلى أن أطبق يديه أخيرا على البنك المركزي، وصار ُينفق منه على هواه، ليشتري بأموال العراق الهائلة وعقود الدولة ومناقصاتها ومقاولاتها ومشاريعها دولا شقيقة وصديقة بكاملها، برؤسائها وحكوماتها وشعوبها، ومصانعها ومزارعها، وأحزابها ومنظماتها ومؤسساتها، وجرائدها ومجلاتها، ومحطات إذاعاتها وتلفويوناتها، حتى جعل العالم كله يرى صورته ويسمع صوته ويتابع أخباره كل يوم وكل ساعة.
وأخيرا، حين أكمل طوقه حول رقبة الأب القائد، رماه خارج القصر الجمهوري، بغتة، ليموت بعد ذلك بقليل، مدشنا عهده المجيد بحفلة قاعة الخلد الشهيرة التي أعدم فيها جميع مناوئيه في القيادة، فأراح واستراح.
يبدو أن السيد نوري المالكي يعيد علينا بعض مشاهد مسيرة صدام حسين. صحيح أن حوله كثيرين من المناوئين والمتربصين، مثل أمريكا والحكيم والصدر والسنة والأكراد، يحدون من اندفاعه، ويقفون حجر عثرة أمام نزعته المكبوتة نحو الاستبداد والتفرد بالقرار، لكنه، في هذه أيضا، يقلد سلفه صدام حسين، فيتحالف مع هذا ليمحو ذاك، ويصادق (س) ليبطش بـ (ص)، إلى أن يضع الدولة كلها في قبضته، ليجبر الناس أخيرا على قبول الأمر الواقع الذي لا فكاك من قبوله.
وقد تفضل أحدُ مساعديه المقربين الذين استوزرهم أخيرا فشخص لي، في رسالة سرية خاصة، حنكة المالكي في التسقيط والتصغير والتهميش، فقال، (يشعر المجلس بأن وضعه في ساحته الشيعية قد تراجع، بل انكسر، والسبب هو المالكي وطريقته في إدارة الدولة التي لم تُعطِ فرصة للمجلس لكي يعمل مثل الدعوة، ويستفيد مما توفره السلطة والحكم من إغراء ومزايا للانتشار بين الناس. وبعد أن عاد المالكي ٤ سنوات أخرى فستكون الخسارة أعظم، حيث إن نهج المالكي هو الاستئثار بالسلطة).
يعني أن نوري المالكي يُحالف ليُمرر، ثم يُغمد خنجره المسموم في ظهر الحليف، فقط عندما تحين الساعة. ولن يُفلت أحد من حلفائه وشركائه في المحاصصة من هذا المصير. أما علاوي ورفاقه في العراقية فسوف يكونون أول الراحلين.
حتى أن صحيفة واشنطن بوست الاميركية المقربة من صانعي القرار في واشنطن، تنبهت، أواخرَ كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، لهذه المسألة، فكشفت عن تخوف أميركي من أن يتحول المالكي الى quot;ديكتاتور محتملquot; في ظل الطريقة التي يدير بها البلاد، والتي quot;تثير التساؤلات بشأن مستقبل الديمقراطية الهشة في العراقquot;، وقالت إن المالكي كشف عن نزعة استبدادية قوية من خلال مجموعة من تحركاته وقراراته الانفرادية في السنوات الماضية.
فهو استغل بحنكة وذكاء فراغ السلطة في الأشهر التسعة الماضية التي تَعمَد خلالها المماطلة َ في تشكيل الحكومة، فشَلَّ مؤسسات ِالدولة، وأبقى العراق دون برلمان، وعزز قبضته على عدد كبير من مؤسسات الدولة الوليدة.
وتبعا لما ذكرته الصحيفة فإنه، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، أقدم على استبدال قادة في الجيش، بقادة جدد عينهم بنفسه، وأخضع مراكز القيادة الإقليمية لسيطرته، وتحرك للهيمنة على أجهزة المخابرات، واستخدم، مرارا، قوات لواء بغداد التي تتلقى أوامرها مباشرة من مكتبه، ضد خصومه السياسيين.
وقد اتهمته منظمة العفو الدولية ومنظمة quot;هيومن رايتس ووتشquot; بإدارة سجون سرية كان يتعرض فيها المتهمون السنة للتعذيب. وامتدت يداه شيئا فشيئا إلى الهيئات التي يُفترض أنها مستقلة عن السلطة التنفيذية، ومن بينها هيئة النزاهة التي أنشئت للتحقيق في الفساد، وهيئة دعاوى المِلكية التي تُحكم في المنازعات على الأراضي في عهد صدام، فطرد مديرين عينهم البرلمان، واستبدلهم بآخرين موالين له، من دون الحصول على موافقة من أحد.
وقال توبي دودغ، الخبير في الشؤون العراقية في كلية quot;كوين ماري كوليدجquot; التابعة لجامعة لندن: quot;لقد شاهدنا المالكي يتحرك بدقة بارعة من أجل فرض سيطرته على الجيش، وبعدها أجهزة الاستخبارات، ومن ثم تأمين قبضة محكمة ومشددة على الآليات المدنية للدولة. وهذه ليست تصرفات قائد ديمقراطي لا مركزي. إنها تصرفات رجل يرغب في تركيز أكبر قدر ممكن من السلطة في يديهquot;.
فبالأمس حرمت هذه المحكمة خصمَه اللدود أياد علاوي من تشكيل الحكومة، حين قررت أن الكتلة الأكبر هي ليست بالضرورة الكتلة الي تفوز بالأنتخابات، بل هي الكتلة التي تتشكل بعدها.
أما الخطوة المالكية الجديدة، وهي الأخطر من جميع خطواته كلها، والتي تزيده شَبَها بسلفه الراحل صدام حسين، فهي قفزه على الهيئات المستقلة كلها، دفعة واحدة، رغم أن جوهر وجودها هو استقلاليتها، ولكي تحافظ على هذه الاستقلالية لابد من بقاء ارتباطها بمجلس الأمة الذي ُيفترض أنه يمثل مصالح الجماهير.
وكل ما حدث أن السيد المالكي سأل المحكمة فردت عليه وقالت له إن جميع الهيئات المستقلة يجب أن تكون مرتبطة برئاسة الوزراء، وليس بأية جهة أخرى.
وردا على هيجان المتحاصصين الآخرين، دافع القاضي عبد الستار البيرقدار المتحدث باسم مجلس القضاء الأعلى عن القرار فقال، quot;لا يمكن لأي هيئة أن تكون خارجة عن سلطة الدولةquot;. لكنه لم يقل إن رئيس الوزراء لا يصبح هو الدولة إلا في عهود الديكتاتوريين الكبار، أمثال ستالين وفرانكو وهتلر وموسوليني وصدام حسين.
السؤال الآن، هل يمكن أن يجري النهر إلى الخلف، ويعودَ الزمن إلى الوراء، فنـُـفاجأ ذات يوم بصدام حسين يُطلق رصاص بندقيته، بيدٍ واحدة، من شرفة القصر الجمهوري، أم إن هذا بعيد على المالكي وعلى العراق وعلى العراقيين؟؟.
التعليقات