الياسمين، من الداخل:

الشعب التونسي قام بانتفاضة عظيمة، تشبه كثيرا انتفاضة الجزائريين على نظامهم يوم الخامس من أكتوبر 1988. الجزائريون استطاعوا أن يُغيّروا رموز النظام وحزب جبهة التحرير، لكنهم لم يُسقطوا النظام الحاكم منذ 1962 وحتى الآن. الفرق بين الانتفاضتين أن الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد نُفي داخل وطنه، فيما أُبعد بن علي إلى الخارج. أقول انتفاضة ولا أقول ثورة لأن الأخيرة تؤدي إلى التغيير الجذري، وهذا ما لم يحدث لا في الجزائر، ولا في تونس التي سقط فيها بن علي ولم يسقط النظام.

ما أتوقع حدوثه في تونس هو أن يسقط المزيد من أزلام النظام الذين يعرفهم الشعب عبر الإعلام، فيما سيُدير اللعبة من خلف الستار، ضباطٌ في الجيش والشرطة بمشاركة الولايات المتحدة التي استفادت كثيرا من سقوط بن علي المحسوب على فرنسا (هذا ما يفسر تذبذب الموقف الفرنسي والصمت الجزائري والمغربي حيال الأحداث في تونس)، هذه القوى الخفية ndash;بمشاركة نظام القذافي- ستقوم بإصلاحات جزئية لامتصاص غضب المتظاهرين.

إصلاحات: من قبيل رفع الحظر عن حزب النهضة، وإعطاء المزيد من حرية التعبير، وإشراك أكبر شريحة من النقابيين والسياسيين في النقاشات السياسية، ثم تأتي مرحلة شراء المعارضة وتقسيمها عبر الحركات التصحيحية، ولما لا! استغلال بعض أعمال العنف التي سيقع فيها بعض المعارضين، وذلك من أجل ممارسة عملية الإقصاء من جديد واستفراد حزب التجمع بمقاليد الحكم، لكن عبر تسميات وشخصيات جديدة.

هذه ليست تخمينات، بل هو السيناريو الأقرب بعد هروب رئيس وبقاء نظام متعفن عجوز، تُحيط به أنظمة أعفن وأردء منه، لن يكون في صالحها أي تغيير في المنطقة، بالإضافة إلى خشية فرنسا وإيطاليا وأمريكا من تضرر مصالحها الاقتصادية في تونس، ما يجعلها تتشبت بالنظام القائم لضمان -الاستقرار- حسب مفهومها.

فبعد انتفاضة الجزائريين عام 1988 خرج المعارضون من السجون وعاد المنفيون إلى الداخل، وانفلقت الجزائر ستين حزبا، وعمّت الحرية، ورغم أن الجزائر الغنية تعتمد في اقتصادها على تصدير البترول والغاز-وليس على السياحة الخارجية- إلا أن قوى دولية أجهضت تجربتها الديموقراطية مُستغلةً غباء الإسلامويين. وبقي المكسب الوحيد من تلك الانتفاضة هو حرية انتقاد النظام حد القذف. وهي حرية أُفرغت من مضمونها، وهذا تماما ما سيحدث مع التوانسة، الذين سيشتمون النظام ورموزه إلى الأبد ثم يعودون إلى منازلهم بخُفّي حُنين. وأتمنى أن أكون مخطئا ويحدث العكس!

الياسمين، من الخارج:

middot; لأول مرة أفتح التلفزيونات الناطقة بالعربية صباحا، ولا أجد محور -غزة، بغداد، كابول- في عناوين الأخبار! المتاجرون بهذه القضايا أخذوا قسطا من الراحة. وأنصحهم بمراجعة الطبيب النفسي، لأن رئيس التحرير الذي يستيقظ كل يوم ويكتب عن: -قتل وفَجّر وسحل واستشهد- ليصدم بها مشاهديه، مكانه الطبيعي، المصحّة النفسية. لقد تعلمنا في الصحافة بأنّ قوة الخبر تكمن في حجم التأثير وليست في تكرار إذاعته لأن التكرار والبث المكثف من شأنه أن يقتل الخبر، وهذا ما حدث مع الأخبار القادمة من الأراضي الفلسطينية التي أصبحت لا تُحرك في المشاهد ساكنا.

middot; ومادمتُ أكتب عن الصحافة، فالصحافي الذي أمسك بالمصحف الشريف ذات يوم على الهواء مباشرة، وقال إنه هدية من (مدام بن علي) التقية الورعة، ثم استلم الشيكات على نفاقه، أصبح معارضا اليوم، كما انضم عشرات الصحافيين التونسيين إلى سمفونية شتم بن علي، صحافيون إما كانوا يُقبّلون أحذية النظام التونسي، أو كانوا يسبون أمريكا وإسرائيل (السبّ السهل) ولا ينبسون ببنت شفة عندما يتعلق الأمر بنظام الديكتاتور البائد.

middot; عمائم الأزهر التي تُفتي حسب طلبات البلاط، وتدعو إلى طاعة الحاكم بحجة الحفاظ على النفس الإنسانية، لم تؤثر فتاويها في الشباب اليائس الذين أحرقوا أنفسهم وسيحرقون، أمام المقار الحكومية في تونس وفي الجزائر وفي موريتانيا وحتى في مصر. رجال الدين لم يستوعبوا بعدُ، أنهم جزءٌ من تلك الأنظمة التي تعيش في كوكب آخر، وأن الشعب التونسي انتفض ولم يطلب إذنا لا من الأزهر ولا من غيره، وليس بحاجة اليوم إلى دروس من أحد.

middot; رجال الدين الذين أدخلوا السياسة إلى المسجد، استغلوا انتفاضة التونسيين فكرَّسوا وقتهم لإصدار البيانات والفتاوى عن الثورة والحرق والانتحار الذي أصبح استشهادا ثم معصية يمكن أن يغفرها الله! هذا الاستغلال أجاب عنه الشباب التونسي في الشارع وفي مواقع الأنترنت: (كما رفضنا ديكتاتورية بن علي، فإننا نرفض أن يستولي على الحكم من سيجلدنا ويقطع أيدينا ويتحكم في معتقداتنا وفي طريقة لبسنا و أكلنا وكل حركاتنا وسكناتنا باسم الله).

بالمناسبة، لا أفهم لماذا يصف رجال الدين صدام حسين بالبطل، ويعتبرون بن علي ديكتاتورا بائدا؟ مع أنهما لا يختلفان كثيرا عن بعضهما البعض!

باحث في جامعة كارنيغي ميلون